عبىء إثبات

عبء إثبات

ينقضي افتراض البراءة في المتهم عدم مطالبته بتقديم أدلة براءته،وتقرير عبء الإثبات على سلطة الاتهام،فيجب عليها أن تقدم ما لديها من أدلة الإثبات ويجب على القاضي الجنائي اتخاذ الإجراءات الكفيلة بجمع الأدلة التي تفيد في كشف الحقيقة إثباتا أو نفيا،على أن ذلك لا يعني وقوف المتهم دائما موقفا سلبيا وعدم مطالبته بتقديم دليل براءته فقد تتوافر أدلة تفيد ثبوت الجريمة في حقه.

ومن واجبه أن يقدم ما يدحض هذه الأدلة حتى لا يترك مسرح التحقيق والمحاكمة لأدلة الاتهام وحدها،فإذا لم تقدم النيابة أدلتها لا يلتزم المتهم بتقديم أي دليل على براءته لان الأصل فيه هو البراءة.

يتضح مما تقدم أن عبء الإثبات مسألة حيوية تتطلب في كل من له مصلحة،أن يبادر إلى إظهارها حماية لمصلحته في الخصومة الجنائية من جهة وإظهار للحقيقة القضائية من جهة ثانية انطلاقا من هذا سنبحث عبء إثبات أركان الجريمة أولا وفي عبء إثبات أركان الجريمة المفترضة للجريمة ثانيا،ولكن حتى تتضح معالم الجريمة وأركانها-أركان الجريمة اختلف الفقهاء في تحديدها-رأينا
أن نفرد لها حيزا من هذا المبحث.

بناء على ما تقدم سنقسم هذا المبحث إلى ما يلي:
أولا : عموميات عن النظرية العامة للجريمة.
ثانيا : عبء إثبات أركان الجريمة.
ثالثا : عبء إثبات الأركان المفترضة للجريمة.
رابعا: عبء إثبات الدفوع.

أولا : عموميات عن النظرية العامة للجريمة: سنبحث تحت هذا العنوان المواضيع التالية:
1- تعريف الجريمة.
2- أركان الجريمة.
3- ظروف الجريمة.
4- شروط الجريمة.

1-تعريف الجريمة: بالرجوع لقانون العقوبات الجزائري-شأنه الكثير من القوانين الجنائية المقارنة-نجده لم يورد تعريف للجريمة،تاركا المهمة للفقه،والفقه الجنائي اختلف تعريف الجريمة تبعا لاختلاف وجهات النظر(20).

*ففي فرنسا:
-عرفها الفقيه-soyer –بأنها واقعة يحرمها القانون ويسمح بتوقيع العقاب على مرتكبها.
-وعرفها الفقيه-desmontis –بأنها واقعة مادية محددة معاقب عليها بواسطة القانون.
-وعرفها الفقيه-borricand-بأنها كل فعل مضاد للنظام الاجتماعي.
-وعرفها الفقيه-ecardon  -بأنها من يفترض له القانون عقابا.
-عرفها الفقيه-macnol- -et -vidal –بأنها انتهاك لحرمة قانون العقوبات.
-وعرفها الفقيه-decoq –بأنها سلوك موصوف بهذه الصفة بواسطة القانون.

والرأي الراجح في الفقه الفرنسي يعرفها بأنها كل فعل أو امتناع بعد اعتداء على النظام وعلى السكينة الاجتماعية،ويفرض له القانون عقابا.

*وفي ألمانيا: -عرفها الفقيه-vliszt –بأنها كل فعل أو حركة إرادية من حركات الجسم يقصد بها إحداث تغير في العالم الخارجي.

*وفي إيطاليا: -عرفها الفقيه-garrara-بأنها عمل خارجي يأتيه الإنسان مخالفا به قانون ينص على عقابه ولا يمكن تبريره بأنه يتضمن أداء لواجب أو استعمالا لحق.

*وفي الفقه العربي:
- عرفها الدكتور محمود محمود مصطفى:بأنها عمل أو امتناع يرتب القانون ارتكابه جريمة.
- وعرفها الدكتور محمود نجيب حسني:بأنها فعل غير مشروع صادر عن إرادة جنائية يقرر
  له القانون عقوبة أو تدبيرا احترازيا.
- وعرفها الدكتور عبد الله سليمان:بأنها الجريمة هي الوقعة الضارة بكيان المجتمع وأمنه.

- وعرفتها قضاة المحكمة العليا بالجزائر بالقول إن كلمة جريمة تطلق على كل فعل أو امتناع عن فعل يعاقب عليه القانون جزائيا سواء كان الفعل أو الامتناع يكون مخالفة أو جنحة أو جناية(قرار صادر يوم24/6/1986 الغرفة الجنائية الأولى طعن رقم836 .43)(22).

2-أركان الجريمة:  اختلف الفقهاء في تعريف الجريمة،اختلفوا أيضا في الأركان المكونة لها،مما جعل أرائهم تتباين على النحو التالي(23).
-ذهب بعضهم إلى القول أن الجريمة تقوم على ركنين اثنين فقط،هما الركن المادي والركن المعنوي،ويستبعد هذا الفقه الركن الشرعي باعتبار أن الصفة غير المشروعة للفعل تتحدد على ضوء نموذج الجريمة،كما ورد في نص قانون العقوبات،فهي العلاقة بين الفعل المرتكب والوصف القانوني،وبالتالي فيه تكشف عن وقوع الجريمة،ولا تعتبر جزءا فيها.

-وذهب بعضهم إلى القول أن أركان الجريمة ثلاثة هي الركن الشرعي أو عدم المشروعية والركن المادي،والركن المعنوي وأصحاب هذا الرأي يعتبرون الركن الشرعي ركنا لازما للجريمة تحت مفهوم الصفة غير المشروعة أي التكيف القانوني للفعل بالنظر إلى نصوص قانون العقوبات(24).

-في حين ذهب بعضهم إلى القول بأن أركان الجريمة أربعة هي الركن الشرعي والركن المادي العنوي أو البغي(25).

ويقصد بهذا العنصر الرابع ألا يكون السلوك الإجرامي قد وقع بمناسبة استعمال الحق أو أداء الواجب.

3-ظروف الجريمة:  بالإضافة للعناصر العامة والخاصة المكونة للجريمة والتي لا تقوم الجريمة بدونهايوجد ما يسمى بظروف الجريمة من هذه الظروف ما يغير من وصف الجريمة أو من طبيعتها،ومنها ما يقتصر أثرها على تغيير مقدار العقوبة سواء بالتشديد أو بالتخفيف.

*بالنسبة للنوع الأول:(الظروف التي تغير من وصف الجريمة):  الظروف التي تغير من وصف الجريمة أو من طبيعتها،فيبدوا ذلك واضحا من الصور المختلفة التي يمكن أن تأخذها السرقة مثلا:

- فالسرقة لها صور بسيطة-تقوم بمجرد توافر أركانها الخاصة(م350 عقوبات).
 - لكن قد يتوافر لها عنصر إضافي كعنصر الإكراه-(م353 فقرة(1)عقوبات).
- أو ظرف الليل(م353/2 ع)أو ظرف التعدد(م353 فقرة(3)عقوبات).
- أو ظرف التسلق والكسر(م353 فقرة(4)عقوبات).
- أو أن يكون السارق خادما وارتكب السرقة إضرارا بمخدومه أو الغير(م353
  فقرة(6)عقوبات).

فهذه الظروف التي تصاحب ارتكاب الجريمة تغير من وصف الجريمة،ويترتب على خضوع الجريمة المقترفة لظرف من الظروف المذكورة أعلاه لقيد ووصف مختلفين عن القيد والوصف اللذين كانت تخضع لهما وهي مجردة من هذا الظرف بمعنى أخر ينطبق عليها نص قانوني يغاير ذلك النص الذي كان ينطبق عليها لو لم يلحقها أي ظرف من هذه الظروف.


*أما النوع الثاني:الظروف التي تغير مقدار العقوبة: الظروف التي تغير من مقدار العقوبة سواء التشديد كما هو الحال في العود (المواد54/59 (6)عقوبات)أو بالتخفيف عن طريق استبدال العقوبة المقررة قانونا بعقوبة أخف منها نوعا ومقدارا كعذر صغر السن حسب(م47 عقوبات)أو الإعفاء من العقاب في حالة إخفاء الفارين من العدالة لصلة القرابة أو المصاهرة حسب (م180 فقرة(2)عقوبات).

شروط الجريمة:  بالإضافة إلى ما تقدم،فان القانون قد يشترط في بعض الجرائم توافر شروط إضافية تسمى بالشروط المفترضةconditions prealable وقد جرى الفقهاء على تسميتها بالأركان المفترضة.
وهذه الشروط اختلف في تعريفها،فعرفها الفقه الإيطالي بأنها عناصر أو مراكز تسبق في الوجود منطقيا وقانونيا قيام الجريمة وتعتبر بمثابة الوسط الضروري لتوافر السلوك غير المشروع.

وعرفها الفقه الفرنسي:بأنها المراكز القانونية أو الواقعية التي تسبق النشاط الإجرامي والتي بدورها لا يكون الفعل معاقب عليه.

وعرفها الفقه العربي بأنها حالة واقعية أو قانونية يحميها القانون أو أنها العنصر الذي يفترض قيامه وقت مباشرة الفاعل لنشاطه أو أنها مركز قانوني تحميه القاعدة الجنائية.

ومن أمثلة الشروط المفترضة:
- صفة الموطن العام فيمن يرتكب جريمة الاختلاس(م119 عقوبات).
- صفة الموطن العام فيمن يرتكب جريمة الرشوة(م126 عقوبات).
- قيام الحجز كشرط لوقوع جريمة اختلاس أو تبديد الحجوزات(م119 ع).
- تسليم مال منقول إلى الغير بناء على أحد عقود الأمانة كشرط لوقوع جريمة خيانة الأمانة(م376 عقوبات).

وتختلف الشروط المفترضة عن ظروف الجريمة وأركانها:  فهي تختلف عن الظروف التي تغير من وصف الجريمة من حيث أن هذه الأخيرة قد تسبق النشاط الإجرامي(كصفة الخادم في جريمة السرقة م353/6 ع)أو تعاصره (كظرف الإكراه في السرقة(م 353/1 ع).
-أما الشرط المفترض في الجريمة فإنها تسبق بالضرورة نشاط الجاني(كاشتراط حياة المجني عليه وقت ارتكاب جريمة القتل(م 254 ع).


-كذلك فانه يترتب على توافر هذا النوع من الظروف تغير وصف الجريمة وخظوعها لنص قانوني مختلف عن النص الذي كانت تخضع له وهي مجردة من هذا الظرف.
-أما الشرط المفترض فلا يترتب على وجوده مثل هذا التغير إنما يترتب على انتفائه انتفاء الجريمة بأكملها.
- وتختلف الشروط المفترضة عن الظروف التي تغير العقوبة من حيث أن الأولى لا أثر لها بالنسبة للعقاب بعكس الثانية فان توافرها يترتب عليه تشديد أو تخفيف العقوبة.
-وتختلف الشروط المفترضة عن أركان الجريمة من حيث الركن هو صلب الجريمة،وهو أمر غير مشروع بجريمة القانون بينما الشرط المفترض فهو أمر مشروع،بمعنى مركز قانوني يتولى قانون.ع.حمايته ضد أي اعتداء يقع عليه.

ثانيا : عبء إثبات أركان الجريمة:  القاعدة بالنسبة للدعوى الجنائية هي أن النيابة العامة لوصفها سلطة اتهام يقع عليها عبء جمع عناصر الاتهام وتقديمها للقضاء،وهو إجراء لا يعني أن النيابة العامة سلطة قهر في مواجهة المتهم،بل أن النيابة تقتضي مهمتها أن تقدم كافة عناصر الإثبات في الدعوى بوصفها في الدعوى تمثل المجتمع وليس طرفا خصما على النحو المقصود في معنى الخصومة في الدعوى الجنائية.

والنيابة العامة كسلطة اتهام وهي تباشر دورها في الدعوى الجنائية إذا اتفقت مع المدعي المدني في شق،فإنها لا تتفق عند تحقيق مصلحة ما خاصة كما هو الحال بالنسبة للمدعي،بل أنها تذهب إلى إثبات كافة العناصر المكونة للجريمة على النحو المبين بالنموذج القانوني للواقعة-(الركن الشرعي:والركن المادي والركن المعنوي)-وهو إجراء تفرضه طبيعة الدعوى الجنائية وخطورة النتائج التي تترتب عليها والجزاءات الناشئة عن الحكم فيها.

ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد فقط بل أن النيابة كسلطة اتهام يقع عليها عبء إثبات عدم توافر أي سبب يغير من أسباب انقضاء الدعوى الجنائية،ولم يقف الشارع عند هذا الحد أيضا ولكن ألزم النيابة بإثبات قيام الدعوى على المتهم في الميعاد القانوني.        

وقد ميز المشرع أيضا بين مراكز الدعويين الجنائية والمدنية ، ولم يسوي بين مراكز الخصوم،فالدعوى الجنائية أخضعها لمجموعة من الضمانات المتمثلة في إجراءات البحث والتحري التي أسندها المشرع لسلطتين مختلفتين سلطة جمع الاستدلالات وسلطة التحقيق،وأوجب شرعية تنفيذها بهدف كشف الحقيقة وعدم طمس معالمها.

هذا والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو كيف تثبت النيابة أركان الجريمة الإجابة على السؤال تتطلب تقسيم هذا العنصر إلى ما يلي:
1-عبء إثبات الركن الشرعي.
2-عبء إثبات الركن المادي.
3-عبء إثبات الركن المعنوي.

1-عبء إثبات الركن الشرعي: سبق الذكر أن الركن الشرعي-دون بقية أركان الجريمة الأخرى-كان محل خلاف الفقهاء من حيث كونه ركن في الجريمة من عدمه،إلا أن مجال الإثبات في الواقع العملي أظهر أهمية هذا الركن في الجريمة ، لأنه من المستحيل إدانة شخص بجريمة وتسليط العقوبة عليه وفي غياب الركن الشرعي،ذلك أن هذا الركن يحكمه مبدأ الشرعية،ومبدأ الشرعية عنصر جوهري للإدانة تطبيقا لأحكام المادة الأولى من قانون العقوبات لا جريمة ولا عقوبة.إلا ينص.

-وهذا ما استقر عليه قضاء المحكمة العليا في التطبيق العملي حين قرر أنه من المقرر قانونا أن الأحكام والقرارات الصادرة بعقوبة يجب أن تتضمن ذكر النصوص القانونية المطبقة وإلا وقعت تحت طائلة البطلان إذ بدون ذلك لا يتسنى للمحكمة العليا ممارسة رقابتها القانونية على هذه الأحكام ومن تم فان القضاء بما يخالف هذا المبدأ يعد خرقا للقانون..(قرار صادر يوم31 ديسمبر1989 المجلة القضائية1989 عدد4 ص303 )(26).

غير أنه ليس من الضروري إثبات هذا الركن على أساس أنه متعلق بالقانون،وعلم الناس بالقانون أمر مفترض إذ لا يقبل الاحتجاج يجهل أحكام القانون،لان الجهل بالقانون يخالف مبدأ دستوري نصت عليه المادة60 من دستور1996 بالقول لا يعذر بجهل القانون وهذا المبدأ مقر في غالبية التشريعات المقارنة،ولذلك لا تكون القاعدة القانونية الواجبة التطبيق وعليه أيضا أن يفسر هذه القاعدة-تفسير القاضي للقاعدة القانونية يظهر من الحكم الذي يصدره-وأن يحكم بما يؤدي إليه فهمه لها ويكون ذلك تحت رقابة المحكمة العليا وهذا ما استقر عليه عمليا قضاء المحكمة العليا حين قرر أنه مع ما لقضاة السلطة في تقدير وقائع القضية فان القانون يفرض عليهم إعطاء وصف صحيح لهذه الوقائع حسبما يستنتج من المناقشات ويعود إلى المحكمة العليا سلطة مراقبة التكيف المعطى لهذه الوقائع والنتائج القانونية التي يرتبها قضاة الموضوع عن هذا التكيف قرار صادر يوم31 ما ي 1966 النشرة السنوية للعدالة1966/1967 ص 318).

وما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام هو أن التكييف الأولى الذي يعطيه وكيل الجمهورية للفعل تكيف مؤقت،يمكن تعديله أو تغيره،لان الركن الشرعي للجريمة يمثل نقطة قانونية تخضع لسلطة القضاة وتقديرهم،وأن من الواجب عليهم أن يتحققوا من صحة التكييف المقترح من طرف النيابة العامة،فكثيرا ما يستبعد قاضي الحكم التكييف الذي يقترحه ممثل النيابة ويكيف الوقائع بحسب النص الصحيح الذي تظهره الوقائع فيما بعد،مع ملاحظة أن مسألة تكييف الوقائع وإعادة التكييف أمر على درجة كبيرة من الأهمية والدقة،لأنه كمبدأ عام لا يجوز التكييف خارج الفئة الواحدة أو العائلة الواحدة التي تنتمي إليها الجريمة،فمثلا لا يجوز إعادة تكييف الوقائع من جنحة السرقة-المادة350 عقوبات-إلى جنحة الضرب والجرح العمدي-المادة264 لان كلا الجريمتين ينتمي إلى فئة أو عائلة تختلف عن الأخرى،فهي حين يجوز إعادة التكييف من جنحة السرقة-م 350 عقوبات-إلى جنحة خيانة الأمانة-المادة376 عقوبات-لأنهما من نفس العائلة،التي تحمل عنوان الجنايات والجنح ضد الأموال.

وما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام هو أن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي عرفتها الجزائر في العشرية الماضية استدعت مواكبة الأمر تشريعيا،مما أدى إلى جل القوانين القديمة-ذات البعد الاشتراكي-وإحلال محلها قوانين جديدة-ذات بعد لبرالي-شملت كل المجالات الأمر الذي جعل الإطلاع عليها ومواكبتها أمر على درجة كبيرة من الصعوبة،إضافة إلى قلة الوسائل التي يسير بها جهاز القضاء،والظروف الصعبة التي يعمل فيها القاضي،كل هذه الأمور مجتمعة هي السبب في اعتقادنا في ظهور بعض الأخطاء في مجال المتابعة والحكم بقوانين ملغاة في بعض الأحيان وبطبيعة الحال في مثل هذه الحالات فان القانون في حد ذاته يصبح محل إثبات لذلك فالسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو على من يقع عبء إثبات الركن الشرعي.أوجب أ

تطبيقا لقاعدة أن المتهم بريئ حتى تثبت إدانته-قرينة البراءة الأصلية للمتهم-فان سلطة الاتهام(النيابة)والمجني عليه(المضرور)وهما اللذان يتحملان عبء إثبات هذا الركن الأساسي وهو ما يتم فعلا في الواقع العملي،لان ممثل النيابة عندما تعرض عليه شكوى الشاكي يقدرها إذا كان الفعل الوارد بالشكوى يكون جريمة من جرائم قانون العقوبات أم لا،فإذا تبين له أن الوقائع الواردة بالشكوى لا تكون جريمة من جرائم قانون العقوبات،فانه يمتنع عن متابعة الشخص المشتكى منه أو المسند إليه الفعل ، ويتخذ قرار الحفظ بشأن الشكوى،ويوجه الشاكي الوجهة الصحيحة غير الطريق الجزائي،إذا تبين له ما يطلبه الشاكي يتعلق بالمسائل المدنية أو التجارية أو الاجتماعية أو الاستعجالية الخ،أما إذا تبين له أن الوقائع الواردة بالشكوى تكون جريمة من جرائم قانون العقوبات أو القوانين المكملة له،فانه يعطي تكييف للفعل بحسب النص القانوني.  

هذا ولسلطة الاتهام دورا كبيرا في إثبات الركن الشرعي،لأنها صاحبة المتابعة وبمتابعتها للشخص-المتهم-يقع عليها عبء إثبات النص القانوني الذي استندت عليه في متابعة المتهم وهو النص الساري المفعول وأن المتابعة صحيحة من الناحية القانونية(27). 

ودور النيابة كسلطة اتهام يساير كل مراحل الدعوى الجنائية بحيث أنها تعمل كل ما في وسعها لدعم التهمة ضد المتهم عن طريق إبراز شرعيتها-أي لها أصل في القانون طبقا للمادة1 عقوبات-وتأسيسها القانوني،ليس هذا فحسب بل أنها تتدخل كلما أثيرت مشاكل تتعلق بالركن الشرعي للجريمة وإثباته (28).

عبء إثبات الركن المادي:  يقع عبء إثبات الركن المادي للجريمة على كل من سلطة الاتهام والمجني عليه أو المضرور من الجريمة،أياما كانت طبيعة الجريمة المرتكبة،فالنيابة كسلطة اتهام تثبت أن الأفعال المادية المرتكبة من الجاني قائمة في حقه وهي تتكيف مع نص التجريم الذي تأسس عليه المتابعة الجنائية(29)والمجني من الجاني عليه يقع عليه عبء إثبات وجود الضرر الذي خلفه الفعل المجرم والمقترف من الجاني.

يتضح مما تقدم أن عبء الإثبات في المواد الجنائية أكثر ثقلا منه في المواد المدنية لأنه لا يكفي مجرد إثبات ارتكاب فعل ضار بل يجب إثبات كل العناصر التي تدخل في التعريف القانوني للجريمة التي ارتكبت(30).

لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو هل يجب إثبات النشاط الإجرامي حتى ولو كان سلبيا ذلك أن النشاط الإجرامي كما قد يكون إيجابيا فانه يكون سلبيا، حيث يتكون من الامتناع عن عمل يفرضه القانون،كامتناع الام عن إرضاع طفلها حتى يهلك-المادة259 عقوبات،أو كامتناع الشخص عن تقديم مساعدة لشخص في خطر المادة182 عقوبات أو الامتناع عن دفع النفقة المادة331 عقوبات أو امتناع الشاهد عن أداء الشهادة المادة223 من قانون الإجراءات الجزائية،ففي مثل هذه الحالات وغيرها هل تصلح مثل هذه الوقائع السلبية أن تكون موضوعا للإثبات. 

إجابة على هذا السؤال ذهب جانب من الفقه إلى القول أن سلطة الاتهام لا يمكن لها إقامة الدليل على الوقائع السلبية المحضة بسبب صعوبة هذا الإثبات وبالتالي يتحول في هذه الحالة عبء الإثبات من النيابة ويقع على عاتق المتهم،وعلى هذا الأخير إثبات وجود وقائع إيجابية تنفي هذه النشاط السلبي وأحسن مثال تطبيقي لوجهة النظر هذه هو جريمة التشرد المنصوص عليها في المادة196 عقوبات،ففي مثل هذه الجريمة يجب على المتهم أن يثبت أن له مسكنا مستقرا،وذلك لان واقعة عدم وجود مسكن مستقر ليس من السهل إثباته من جانب النيابة العامة.


غير أن هذا الرأي منتقد من غالبية الفقهاء،لأنه مناف لقرينة البراءة،ومن تم وجب على النيابة العامة إثبات الواقعة الإيجابية المضادة كإثبات النوم الدائم للمتهم في الطريق العمومي مع التعطل عن العمل.

وما تجدر الإشارة والتذكير به في هذا المقام هو أن الجريمة قد تكون تامة كما يمكن أن تقف عند حد الشروع،فإذا كان الاتهام بجريمة تامة فيجب على سلطة الاتهام إثبات وقوع النتيجة بمعنى الاعتداء على الحق أو المصلحة العامة التي يحميها قانون العقوبات ومثال ذلك الموت في جريمة القتل،أو المرض أو العجز في جريمتي الضرب والجرح،أو نزع الحيازة في السرقة استقر عليه قضاء المحكمة حين قرر وجوب أركان الجريمة في الحكم القاضي بالإدانة وذلك بالقول من المستقر أنه يجب على قضاة الاستئناف أن يستظهروا في قراراتهم أركان الجريمة المستوجبة للعقوبة والنصوص القانونية المطبقة عليها وإلا كان قرارهم باطلا واستقر أيضا على أنه من المستقر قضاء أنه يشترط لصحة الحكم الصادر من محكمة الجنايات في الدعوى العمومية أن يكون مبنيا على سؤال يتضمن كافة أركان الجريمة بصفة واضحة وغير متشعبة وإلا ترتب على ذلك النقض والبطلان.

عبء إثبات الركن المعنوي: لا يكفي لإدانة المتهم إثبات الفعل أو الامتناع من جانبه،إنما يجب بالإضافة إلى ذلك إثبات أن هذا الفعل والامتناع تم بمحض إرادته أي ارتكبه عمدا أو قصدا(01) فالعمد أو القصد يعني العلم بارتكاب فعلا إجراميا،وارادة ارتكاب هذا الفعل وهذا القصد يوصف بأنه قصد عام،ويقع على سلطة الاتهام عبء إثباته.

هذا واثبات الركن المعنوي هو أصعب المسائل التي تتعرض لها سلطة الاتهام،لان القصد الجنائي أمر داخلي يضمره(يخفيه)الجاني في نفسه ولا يستطاع معرفته إلا بمعرفة خارجية من شأنها أن تكشف عنه وتظهره(02).

والقصد ليس نوعا واحدا في كل الجرائم،بل أنه يختلف بحسب نوع الجريمة في بعض الجرائم يتطلب القانون نوعا خاصا من القصد ومن ذلك مثلا نية إزهاق الروح في جريمة القتل،ونية التملك في جريمة السرقة،ففي هذين الفرضين،وفي كل الجرائم ذات النتائج ينبغي على سلطة الاتهام أن تثبت أن الجاني كان يريد الوصول إلى نتيجة إجرامية محددة بنص(03).

هذا ويكسي الركن المعنوي للجريمة عدة صورة،منها أنه قد ينطوي على قصد الجاني ومنها أنه يكون مجرد خطأ جاني غير عمدي.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو هل أن القصد الجنائي واجب الإثبات في المتابعة الجنائية أم أنه مفترض لدى الفاعل بمجرد تحقق فعله الإجرامي.

لم يجب صراحة قانون العقوبات الجزائري،بأن الفعل لا يعتبر جريمة إلا إذا توافر القصد الجنائي لدى الفاعل. 

هذا ولما كان الركن المعنوي ركنا من أركان الجريمة ولا يتم بدونه،فانه لا يمكن تجريم فعل المتهم إلا بتوافر هذا الركن،وأنه يعود لقضاة الموضوع استخلاص النية الإجرامية من وقائع القضية ولا يمكن أن تفرض افتراضا،بل لا بد من إقامة الدليل عليها بصورة كافية.

وما تجدر ملاحظته أن بعض النصوص الواردة في قانون العقوبات ذكرت في بعض الجرائم عنصر بصورة صريحة بينما لم تذكره في جرائم أخرى ومثال ذلك ما نصت عليه المادة254 عقوبات من أن القتل العمد هو إزهاق روح إنسان عمدا وما نصت عليه المادة264 عقوبات من أن كل من أحدث جروحا للغير أو ضربة أو ارتكب أي عمل آخر من أعمال العنف يعاقبوما نصت عليه المادة287 عقوبات من أن كل من أخفى عمدا أشياء مختلسة أو مبددة أو متحصلة من جناية أو جنحة في مجموعها أو جزء منها يعاقب وما نصت عليه المادة418 عقوبات قبولها يعد مرتكبا لجريمة التخريب الاقتصادي ويعاقب…… كل من أحدث أو حاول أن يحدث متعمدا شغبا من شأنه أن يعرقل الأجهزة الأساسية للاقتصاد الوطني،أو يخفض من قدره إنتاج الوسائل الاقتصادية.

بينما وردت نصوص أخرى تعاقب على أفعال معينة دون أن تذكر القصد الجنائي بصورة صريحة ومثال ذلك ما أوردته المادة350 ع التي نصت على أن كل من اختلس شيئا غير مملوك له يعد سارقا ويعاقب وما أوردته أيضا المادة429 ع بالنص على أن يعاقب كل من يخدع أو يحاول أن يخدع المتعاقد.

- سواء في الطبيعة أو في الصفات الجوهرية أو في التركيب أو في نسبة المقومات اللازمة لكل هذه السلع.
- سواء في نوعها أو مصدرها.
- سواء في كمية الأشياء المسلمة أو في هويتها.

تجاه هذه النصوص المختلفة من حيث صيغتها ما هي الطريقة التي يمكن أن تعتمد في إثبات القصد الجنائي في الجرائم الواردة أعلاه المبدأ هو أنه كلما ورد في النص ذكر للقصد كعنصر مكون للجريمة وجب على سلطة الاتهام أن تقدم الإثبات على توفره حتى تصح المتابعة بالجريمة العمدية فإقامة الدليل على الصفة العمدية للجريمة شرط ضروري لإضفاء هذه الصفة عليها وإلا تعذرت المتابعة بهذه الصفة ومثال ذلك أنه يتعذر على سلطة الاتهام الادعاء على شخص بجريمة القتل فقط فالقتل يمكن أن يحدث بقصد-أي عمدا(م 250 ع) أو عن غير قصد(م 288 ع) فإذا حدث قصدا أي عمدا فلا بد من تقديم الإثبات على توفر الفاعل حتى تقوم المتابعة على أساس القتل عمدا.

أما في الجرائم التي لم يورد في النص ذكر لعنصر القصد فيكفي سلطة الاتهام أن تقدم الإثبات على توفر الأفعال المادية التي تنبئ بتوفر القصد لدى الفاعل كي تطلب الإدانة،فالفعل المادي هنا يعكس النية الإجرامية لدى الفاعل ويكون المعبر عن القصد الجنائي،فمثلا السارق الذي يضع في جيب رجل واقف معه في الحافلة هذا الفعل بحد ذاته يعبر بصورة مادية عن قصد الفاعل ولا حاجة لسلطة الاتهام أن تقدم الإثبات على القصد إلا بما يقدمه من وقائع تنبئ به.

إلى جانب القصد الجنائي العمودي المنصوص عليه صراحة وغير المنصوص عليه،هناك القصد الاحتمالي.

هنا وتجدر الإشارة إليه أن العنصر المعنوي لا يقتصر فقط على حالة الجريمة التامة بل يكون واجبا أيضا في حالة مجرد الشروع وفي هذا الغرض الأخير، فان عبء الإثبات القصد الجنائي يقع على عاتق سلطة الاتهام.

كذلك الأمر في حالة الاشتراك فانه يجب توافر القصد الجنائي،والذي يتمثل في إرادة أو نية المشاركة في تحقيق الجريمة المرتكبة.