المسؤولية الجنائية

المسؤولية الجنائية

 يجب لكي يكون الشخص مسؤولا جنائيا أن يكون متمتعا بالإدراك و الإرادة فإذا إنعدم إحدى هذين الشرطين، إنعدمت المسؤولية الجنائية تبعا له فلا يسأل الشخص عن جريمة ما إلا إذا كان قد إرتكبها بمحض إرادته أو إختياره و كان وقت إرتكابها متمتعا بكامل عقله و إدراكه فإذا أثبت أنه كان فاقد الإدراك لجنون أو عاهة عقلية، أو كان معدوم الإختيار لوقوعه تحت حالة إكراه أو ضرورة إنتفت عنه المسؤولية و إمتنع العقاب. و سنتكلم أولا عن شروط ثبوت تحمل المسؤولية الجنائية، و ثانيا عن عوارض المسؤولية الجنائية.

شروط تحمل المسؤولية الجنائية:        لم ينص قانون العقوبات الجزائري على الشروط الواجب توافرها لتحمل المسؤولية الجنائية. غير أنه يفهم من سياق أحكامه و نصوصه أنه يشترط لقيام هذه المسؤولية شرطين أساسيين:

01)- الإدراك أو التمييز: و يقصد به قدرة الإنسان على فهم ماهية أفعاله     و تقدير نتائجها و التفرقة بين ما هو ممنوع و ما هو مباح فإذا إنعدم التمييز لدى الشخص لصغر سنه دون الثالثة عشر ( م 49 ع.ج ) إنعدمت المسؤولية الجنائية    و كذلك من يفقد إدراكه كالمجنون لا يسأل جنائيا عما يأتيه من أفعال.

       02)- الإرادة: و هي توجيه الذهن إلى عمل معين و توافرها ضروري لقيام المسؤولية الجنائية لأن هذه المسؤولية مبناها في الواقع حرية إختيار الفرد ولو إلى حد محدود، فإذا إنعدمت الإرادة مثلا بسبب إكراه أو ضرورة إنعدمت معها حرية الإختيار و إنهارت المسؤولية الجنائية من أساسها.

       غير أن الإرادة يختلف مداها: أ ) فإما أن يريد الشخص الفعل و نتائجه كما في القتل العمدي و السرقة وما إليها، و في هذه الحالة يقال أن الجريمة عمدية أعني قد توافر فيها ما يعبر عنه إصطلاحا بالقصد الجنائي و إما ب) أن تقتصر الإرادة على فعل من الأفعال فتترتب عليه نتائج لم يكن الجاني قد أرادها فيسأل عنها إذا كانت راجعة لإهماله، أو عدم إحتياطه و هذا هو ما يسمى بالخطأ أو اللاقصد.

القصد الجنائي: القصد الجنائي أو النية الجنائية هو عبارة عن تعمد إرتكاب الجريمة كما حددها القانون و بعبارة أخرى هو توجيه الإرادة لأحداث أمر يعاقب عليه القانون فيقدم الجاني على الفعل و هو عالم أن القانون يحرمه و يعاقب عليه أو يمتنع عن القيام بما يفرضه عليه القانون و هو عالم بأن القانون بعد هذا الإمتناع جريمة و القصد الجنائي قد يشتبه بالإرادة أو الباعث أو بسبق الإصرار.    و لذلك سنوضح الفرق بين كل منهما فيما يلي:

أولا: الفرق بين الإرادة و القصد الجنائي: يختلف القصد الجنائي عن الإرادة في أن الإرادة هي تعمد الفعل المادي أو الترك. و أما القصد فهو تعمد النتيجة المترتبة عليه. فمن يطلق عيارا ناريا في الهواء في حفل عرس فيصيب شخصا    و يقتله فلا جدال هنا في أن إطلاق العيار كان بإرادته و لكنه لم يرد النتيجة التي وقعت و هو موت الشخص و لذلك فهو لا يعتبر قاتلا عمدا لأنه لم يتوافر لديه القصد الجنائي في القتل بالرغم من توافر الإرادة.و لكنه يسأل فقط عن القتل الخطأ.

       ثانيا: الفرق بين القصد الجنائي و الباعث: يختلف القصد الجنائي أيضا عن الباعث و هو السبب الذي يدفع الإنسان إلى إرتكاب الجريمة أو هو الرغبة التي يريد الإنسان أن يشبعها هي الإنتقام أو الشهوة أو خدمة الوطن أو الطمع أو سد الحاجة أو ما إليها فهو إذن سابق على القصد الجنائي. و هذا الباعث يختلف بإختلاف الأحوال. فالجريمة الواحدة ولو أن الغاية المباشرة فيها واحدة إلا أنه قد إختلفت الدوافع التي تدفع إليها إختلافا كبيرا. فجريمة القتل مثلا الغاية المباشرة منها هي إزهاق الروح و لكن الذي يدفع المتهم إلى إرتكابها قد يكون الإنتقام أو الجشع أو الثأر للعرض أو تسهيل إرتكاب جريمة أخرى أو ما إلى ذلك و هكذا نرى أن الباعث يختلف في كل حادثة عنه في غيرها فالدافع إلى جريمة القتل هذه غير الدافع إلى جريمة قتل أخرى. بعكس القصد الجنائي فهو واحد في كل نوع من أنواع الجرائم. فهو في كل جرائم القتل مثلا مجرد إزهاق الروح و كذلك الحال في السرقة و الحريق و غيرها.

و غالبا ما يكون الباعث خبيثا، إلا أنه قد يكون شريفا و محمودا من الوجهة الأدبية كدافع حب الوطن في الجرائم السياسية و محو العار في الثأر و الرحمة في تخليص المريض من مرضه العضال بقتله الخ، و هو في كلتا الحالتين لا تأثير له في وجود الجريمة. فالجريمة واقعة و المسؤولية قائمة مهما كان الباعث الذي دفع الفاعل إلى إرتكابها حتى و لو كان هذا الباعث شريفا. غير أنه قد يؤثر في تقدير عقوبته بواسطة القاضي فيما بين الحدين الأدنى و الأقصى. كما يصح إعتباره ظرفا قضائيا مخففا يستوجب تطبيق المادة 53 من قانون العقوبات و الهبوط من عقوبة إلى العقوبة التالية لها.

ثالثا: الفرق بين القصد الجنائي و سبق الإصرار: يختلف القصد الجنائي كذلك بمعناه المتقدم عن سبق الإصرار، فسبق الإصرار هو أعمال الروية و التفكير في الجريمة تفكيرا ينتهي بعقد العزم على إرتكابها وقد عرفه قانون العقوبات الجزائري بأنه هو عقد العزم قبل إرتكاب الفعل على الإعتداء على شخص معين أو حتى على شخص يتصادف وجوده أو مقابلته و حتى لو كانت هذه النية متوقفة على أي ظرف أو شرط كان. م 256 و ظاهر من ذلك أن القصد الجنائي يكون معاصرا للجريمة بعكس سبق الإصرار فهو سابق عليها لفترة من الزمن و إنما ليس المهم هو في مجرد إنقضاء هذه الفترة من الوقت طالت أو قصرت بل المهم أن يكون الجاني في هذه الفترة متأثر تفكيره و عزمه على إرتكاب الجريمة في هدوء يسمح له بترديد الفكر بين الإقدام و الإحجام و ترجيح أولهما على الآخر. فإذا كان المتهم أثناءها منزعجا غير هادئ التفكير فلا يكون ثمة سبق الإصرار. لتوافر سبق الإصرار و عدمه أهمية كبيرة كما قدمنا من الظروف المشددة التي يترتب عليها تشديد العقاب في جريمة القتل العمدي إلى الإعدام و كذلك في جرائم الجرح          و الضرب و غيرها أما القصد الجنائي فهو على نوعين:
- قصد جنائي عـام.  - قصد جنائي خاص.

فالقصد الجنائي العام: هو القصد العادي الذي يتطلبه القانون في أغلب الجرائم العمدية و هو عبارة عن إرتكاب الجريمة مع علم المتهم بأنه يرتكب أمرا محرما. كما هو الحال في جرائم الضرب مثلا إذ القصد الجنائي فيها هو مجرد المساس بجسم المجني عليه أو صحته و في شهادة الزور يكون القصد الجنائي هو قلب الحقائق أو إخفائها بسوء نية م 232 ع.ج.

  أما القصد الجنائي الخاص: فيقصد به أن تنصرف نية الجاني إلى غاية معينة         
أو بعبارة أوضح أن يحمله على إرتكابها دافع أو غرض معين، و كثيرا ما يتطلب القانون توافر هذا القصد كشرط أساسي لوجود الجريمة بحيث إذا إنعدم لا تقوم الجريمة تبعا له.

ففي جريمة القتل العمد يشترط القانون نية إزهاق الروح فيها توافر القصد الجنائي الخاص وقد تثبت هذه النية من إعتراف الجاني أو من بعض القرائن كالسلاح المستعمل في إرتكاب الجريمة أو مكان الإصابة أو تعددها و هكذا و في جريمة التزوير في محرر ( م 214 و ما بعدها) لا يكفي لتوقيع العقاب على الجاني أن يتوافر لديه القصد الجنائي العام و هو إرتكاب التزوير مع المحرر مع علمه بأن هذا العمل جريمة يعاقب عليها القانون بل لابد أيضا لقيام الجريمة و إستحقاق العقاب من أن يتوافر إلى جانب هذا القصد العام قصدا خاصا هو نية إستعمال المحرر المزور فيما حرر من أجله. فمن يزور ورقة من أوراق النقد ليضعها في متحف عنده إظهار لمهارته لا عقاب عليه و كذلك في جريمة البلاغ الكاذب       (م 300 ع.ج ) لا يكفي لعقاب المبلغ توافر القصد الجنائي العام في حقه و هو قيامه بالتبليغ و هو عالم بكذب الوقائع التي يحتويها البلاغ، بل لا بد من توافر قصد جنائي خاص هو نية الوشاية بالمبلغ ضده للأضرار به. و في معرفة ما إذا كان القانون يتطلب قصدا جنائيا خاصا إلى جانب القصد العام يتعين الرجوع إلى نص المادة حيث ينص القانون فيها أحيانا نصا صريحا على ذلك أو يفهم من سياقها.

درجات القصد: ينقسم القصد الجنائي من حيث مداه و النتائج التي تترتب عليه إلى أربعة أقسام:

1 المحدود: و معناه أن يرتكب الجاني الجريمة قاصدا نتيجة معينة محدودة. كمن يطلق عيارا على آخر بقصد قتله أو من يضع النار في مسكن بقصد إحراقه فيحترق أو ما إلى كذلك ففي كلتا هاتين الحالتين و ما شابهما يرتكب المتهم الفعل و هو يرمي إلى غاية محدودة فتأتي النتيجة كما أراد.

       2 القصد غير المحدود: و هو عبارة عن أن يرتكب الجاني الفعل المادي للجريمة و هو قابل لكافة النتائج التي تترتب عليه أيا كانت بصرف النظر عن شخصية المجني عليهم أو عددهم. أو غير ذلك كمن يلقي قنبلة في مجمع فإنه يعلم أنها ستقتل عددا منهم و تجرح آخرين. و كذلك من يصمم على قتل أول من يقابله من العائلة المعادية.

       أو من يعترض طريقه كائنا من كان. ففي كل هذه الصور يعتبر الجاني مسؤولا عن فعله مسؤولية عمدية رغم عدم تحديد قصده، و لكن ما الحكم إذا أراد الجاني قتل زيد فأصاب عمر. و إذا طلب المجني عليه من الجاني أن يقتله ليخلصه من الآم مرضه الميؤوس منه هل تعتبر الجريمة في كلتا هاتين الحالتين قتلا عمدا؟ القاعدة هنا أن الخطأ في شخصية المجني عليه أو رضاء المجني عليه بالجريمة لا تأثير لهما على توافر القصد الجنائي، و على ذلك ففي هاتين الحالتين السابقتين يعتبر القصد الجنائي متوافرا لدى الجاني و يسأل عن جريمة القتل العمد.

       3 القصد المباشر: و هو الذي ينصب مباشرة على النتيجة التي وقعت سواء أكان محدودا أم غير محدود كما في الأمثلة السابقة.

       4 القصد الإحتمالي: و هو أن يقصد الجاني من فعله الوصول إلى نتيجة معينة فتنشأ عنه نتائج أخرى محتملة لم يكن يقصدها.

       فهو و إن توقع هذه النتائج لم يكن يريدها كمن يضرب شخص لإيلامه فيفضي الضرب إلى الوفاة (م 270 ع.ج) فوفاة المجني عليه في هذه الحالة و إن كانت نتيجة للضرب إلا أن الجاني لم يكن يقصدها.

       فالقصد الجنائي الإحتمالي إذن هو نية ثانوية تختلج بها نفس الجاني الذي يتوقع أنه قد يتعدى فعله الغرض المنوه عليه بالذات إلى غرض آخر لم ينوه من قبل أصلا فيمضي مع ذلك في تنفيذ الفعل فيصب به الغرض غير المقصود         و المشرع الجزائري كثيرا ما يأخذ الجاني بقصده الإحتمالي في بعض الجرائم كما في المادة 399 ع.ج التي تعاقب على الحريق العمد بالإعدام إذا ترتب عليه موت شخص، و كذلك يحمله المسؤولية عن النتائج المحتملة لفعله كما في جرائم الجرح    و الضرب إذا ترتب عليها عاهة ( م 271) أو عجز عن الأشغال الشخصية مدة تزيد على خمسة عشرة يوما ( م 270 ) أو ما إلى ذلك.

الجهل و الغلط و تأثيرهما على توافر القصد الجنائي: عرفنا أن القانون يشترط لمعاقبة الجاني على جريمته أن يتوافر لديه القصد الجنائي أعني أن يكون عالما بحقيقة ما يرتكبه و أن هذا العمل مما يحرمه القانون و يعاقب عليه، و لكن ما الحكم إذا جهل الجاني حقيقة ما يفعله أو أخطأ في فهم نصوص القانون؟.

       قد يحدث الغلط أو الجهل في القانون، كما لو كان الشخص يجهل نص القانون أو يخطئ فهمه وقد يحدث الغلط و الجهل في الوقائع كما لو كان الشخص يجهل واقعة من الوقائع المتعلقة بالموضوع أو يعلم بها على غير حقيقتها و يقال في هذه الحالة بأن هناك غلطا في الوقائع و نوضح كل من هذين النوعين بالأمثلة        فيما يلي:

الجهل أو الغلط في القانون: و مثاله الجزائري الجنسية الذي يسافر إلى فرنسا و يتزوج بإثنين و هو يجهل أن القانون الفرنسي يعاقب على تعدد الزوجات أو الأجنبي الذي يتبارز مع شخص و هو يجهل أن البلد الذي حل به يعاقب على المبارزة، أو الأب الذي لا يقدم أطفاله للتحصين ضد أي مرض وبائي و هو يجهل أنه واجب عليه ذلك؟.

       ما الحكم في كل هذه الأحوال و ما شابهها؟ هل يعاقب المتهم رغم جهله بالقانون أم يصح له أن يدفع بهذا الجهل فيعفى من المسؤولية؟.
 الجواب على ذلك أنه لا يقبل من أحد الإعتذار بجهل القانون، و إلا فإنه لو قبل بعكس ذلك لتعذر تطبيق قانون العقوبات، و هذا فقط بالنسبة لقواعد القانون الجنائي، أما إذا كان الغلط أو الجهل متعلقا بقاعدة من قواعد القانون المدني فإن الحكم يتغير في هذه الحالة فمثلا إذا باع شخص لآخر منزلا و بعد البيع و قبض المبلغ الثمن. نزع بعض التماثيل المثبتة في الأرض ظنا منه أنها من المنقولات ولا تدخل في العقار المبيع جاهلا حكم القانون المدني الذي يعتبرها جزءا من العقار المبيع و هو ما يسمى" عقار بالتخصيص" فإن مثل هذا الشخص لا يعتبر سارقا في هذه الحالة لأن جهله قاعدة من قواعد القانون المدني قد تترتب عليها عدم توافر القصد الجنائي لديه. و هو العلم بأن الشيء الذي يسرقه مملوكا للغير. و هذا القصد هو ركن أساس للعقاب في جريمة السرقة.

الجهل و الغلط في الوقائع: و مثل هذا النوع من الجهل و الغلط. الشخص الذي يأخذ متاعا لآخر معتقدا أنه ملك له. و الشخص الذي أطلق عيارا على زيد زاعما أنه بكر. و الموظف الذي يغلط في كتابة ما يملى عليه.

       و الصيدلي الذي يضع كمية من السم في الدواء على أساس أنها عنصر من عناصره. و كواء الملابس الذي يسلم ملابس زيد خطأ إلى عمرو حاسبا أنها ملابس عمرو. في كل هذه الأمثلة و ما شابهها هل يسأل الشخص عن السرقة في الحالة الأولى و عن القتل في الحالة الثانية. و عن التزوير في الحالة الثالثة و عن التسميم في الحالة الرابعة. و عن التبديد في الحالة الخامسة أم أن وجود الغلط هنا يؤثر على قيام المسؤولية الجنائية ؟ للإجابة على ذلك يجب التفرقة بين الأحوال الثلاثة الآتية:

الحالة الأولى: أن يتعلق الغلط أو الجهل بركن من أركان الجريمة. و في هذه الحالة يترتب عليه فقدان ركن العمد فلا يسأل الشخص عن الجريمة العمدية. فمن يأخذ معطفا للآخر غلطا معتقدا أنه معطفه لا يعتبر سارقا فالقصد الجنائي هو ضرورة علم السارق بأن ما يسرقه غير مملوك له فالقصد منعدم هنا بسبب قيام الغلط.

       و كذلك من يتعامل بقطعة نقود مزيفة و هو يعتقد أنها صحيحة لا يعاقب عليها لأن غلطه ينفى العلم بتزيف القطعة و هو شرط أساس للعقاب و هكذا غير أن عدم قيام المسؤولية عن جريمة عمدية بسبب الغلط لا يمنع من المسؤولية عن جريمة غير عمدية إذا كان القانون يعاقب في تلك الحالة عن النتيجة الناشئة عن الإهمال، فمثلا إذا غلط شخص و أعطى لآخر دواء على ما يعتقد فإذا به سم فإن غلطه يمنع من توافر القصد الجنائي فلا يمكن أن يعاقب على القتل بالتسميم عمدا   و لكن إذا كان هذا الغلط ناشئا عن إهمال في مراعاة الإحتياطات اللازمة فإنه يسأل عن القتل بإهمال.

       و من صور الغلط المتعلق بأركان الجريمة الغلط في صفة المرأة المتزوجة في جريمة الزنا (م 339) بأن يعتقد الزاني أن المرأة غير متزوجة أو الغلط في سن المجني عليه في جريمة تحريض القصر على الفسق و الفجور (م 342 و ما بعدها) بأن إعتقد المحرض أن سن الشاب أو الفتاة تجاوز الثامنة عشر أو الحادية          و العشرين، ففي مثل هذه الجرائم المتعلقة بالأخلاق و الأعراض تشدد المحاكم فلا تقبل الدفع بجهل صفة الزوجة أو سن القاصر إلا إذا كان الجهل نتيجة ظروف إستثنائية قاهرة يقع عبء إثباتها على المتهم و حده.

الحالة الثانية: أن يتعلق الجهل أو الغلط بظرف مشدد للجريمة و في هذه الحالة لا يسأل المتهم عن الظرف المشدد على الرأي الراجع و الذي عليه العمل ما دام إنه يجهل وجود هذا الظرف كالخادم الذي يسرق منقولات لمخدومه معتقدا أنها ملك غيره ( م 353/6 و هكذا الخ.

الحالة الثالثة: الغلط المتعلق بشخص المجني عليه، و لهذا الغلط صورتان الصورة الأولى: أن يرتكب الجاني جريمة ضد شخص غير الشخص المقصود بذاته كمن يطلق عيارا ناريا على زيد حاسبا أنه عمرو و تسمى هذه الحالة بحالة الغلط في الشخصية وقد عرفنا أن هذا الغلط لا يؤثر على قيام المسؤولية الجنائية. فالجاني يعتبر قاتلا عمدا إذ لديه القصد الجنائي في القتل و هو إزهاق الروح و أرواح الناس في نظر القانون سواء.

       و الصورة الثانية: أن يحاول الجاني قتل خصمه فيخطئ في التصويب       و يصيب شخصا آخر كان يسير بالقرب منه و هذه الحالة تعرف بحالة الخطأ في الشخص و فيها أيضا يسأل الجاني عن القتل العمد لتوفر القصد الجنائي لديه.

الخطأ: لا شك في أن القانون يشترط لوجوب معاقبة الجاني أن يتوافر لديه القصد الجنائي فإذا لم يتوافر القصد لا تقوم المسؤولية الجنائية قبله، اللهم إلا إذا أرتكب خطأ يعاقب عليه القانون فتوافر القصد الجنائي إذن ليس بشرط أساس إلا في الجرائم العمدية. أما في الجرائم غير العمدية فيكفي مجرد وجود خطأ من جانب المتهم. و إنما يجب التفرقة بين حالتين:

       الحالة الأولى: و فيها يكتفي القانون بمجرد حصول خطأ ولو بسيط من جانب المتهم بصرف النظر عن النتيجة أي الضرر الذي يحدث عن هذا الخطأ، أعني سواء حصل ضرر أو لم يحصل و يكون ذلك عادة كالإهمال في مواد المخالفات. كمن يهمل في وضع مصباح لإنارة قرب حفرة أحدثها في إحدى الشوارع ليلا      (م 462/1) أو من يلقي في الطريق بغير إحتياط قاذورات على أحد الأشخاص     (م 463/1) و هكذا الخ.

ففي هذه الحالات و ما شاكلها يتحدد الخطأ مع نفس الفعل بمعنى أن مجرد إرادة الفعل يعتبره القانون خطأ ولا يمكن للمتهم أن يدفع بحسن نية أو غلطه.

       و إنما إذا أثبت إنعدام إرادته بسبب قهري فلا مسؤولية عليه.
       فلا يعاقب من وضع مصباحا على حفرة ليلا فجاء لص و سرقه أو من يحدث حريق في منزله فيخرج أمتعته إلى الطريق فإنه لا يعاقب على مخالفة أشغال الطريق (م 466) و هكذا، و كذلك إذا إنعدمت الإرادة أيضا لسبب من أسباب إنعدام المسؤولية الجنائية كالصغر و الجنون و الإكراه فلا محل للعقاب.

       الحالة الثانية: في هذه الحالة لا يعاقب القانون على الخطأ إلا إذا ترتب عليه ضرر كما هو الحال في الجرح و القتل بإهمال و الحريق بإهمال فإذا لم تحدث جروح أو وفاة أو حريق فلا عقاب. و يشترط لقيام المسؤولية الجنائية في هذه الحالة توافر شروط ثلاثة:

       أولا: يجب أن يكون هناك خطأ من جانب المتهم فإذا لم يوجد أي خطأ بالمرة بأن إتخذ المتهم كل ما يمكن من الإحتياط فالحادث يعتبر قضاءا و قدرا فمثلا إذا قاد شخص سيارة وفي أثناء سيره بهدوء أمام منزل خرج طفل معترضا السيارة فجأة فصدمه و مات فلا عقاب على قائد السيارة لأنه لم يرتكب إهمالا و يعتبر الإنسان مخطأ إذا ترتب على تصرفه إصابة كان من الممكن تجنبها بشيء من الحيطة فوجود الخطأ أو عدم وجوده يتوقف على الإجابة على السؤال الآتي:

       هل كان هناك إحتياط يجب إتخاذه و أهمله المتهم بأنه لم يغفل الإحتياط الواجب؟.
و لم يعرف القانون الخطأ و إنما جاء في المادة 288 ع.ج بجملة صورة له و هذه الصور و إن كانت واردة على سبيل الحصر إلا أن ألفاظ القانون جاءت واسعة المعني بحيث يمكن أن تشمل كل صور الخطأ و هذه هي أنواع الخطأ التي ذكرها القانون:

       1 الرعونة: و يقصد بها عدم الحذق و التدرب و بالأخص جهل رجال الفن بأصول فنهم الذي يمارسونه كالطبيب الذي يجهل مبادئ الطب الأساسية فيجري عملية جراحية بدون تعقيم الآلات، أو من يقود سيارة و هو غير ملم بأصول القيادة.

2 عدم الإحتياط: و معناه أن يعلم الجاني ما قد يحدث من نتائج عن فعله ولا يلتفت للنتيجة كالمرضعة التي تنام مع رضيعها فتقلب عليه أثناء النوم و تقتله   و قائد السيارة الذي يسير بسرعة فيصدم أحد المارة أو من يقود سيارة رغم ضعف بصره الشديد فيصطدم بسيارة أخرى أمامه و هكذا.

3 عدم الإنتباه: و هو عبارة عن عدم الإحتياط و كذلك يقصد به عدم التيقظ كالسائق يسير بجوار منخفض في طريق ضيق ولا يبذل حيطة خاصة.

       4 الإهمال: و يكون حيث يقف الجاني موقفا سلبيا تجاه أمر يقتضي الحيطة كمن يترك حفرة دون وضع مصباح عليها ليلا فيتعثر فيها أحد المارة و تموت     أو من يسلم سيارته لشخص غير مرخص له في القيادة فيدهم بها شخصا و يقتله.

       5 عدم مراعاة الأنظمة: كأنظمة المرور مثلا، كسائق سيارة الذي يسير على يسار الطريق أو بدون نور ليلا فيصطدم بأحد المارة. وقد إعتبر القانون مجرد مخالفة الأنظمة خطأ قائما بذاته بدون حاجة لإثبات نوع آخر من الخطأ. فمن يقود سيارة بدون ترخيص و يرتكب أي حادث يسأل عن نتائجه و يتوافر بالنسبة له ركن الخطأ حتى ولو لم يكن هناك أي خطأ آخر. هذه هي صور الخطأ المذكورة في القانون، و إنما يجب ملاحظة أن هناك فارق بين الخطأ المدني و الخطأ الجنائي، فالمتفق عليه أن المسؤولية المدنية تترتب على كل خطأ مهما كان بسيطا. بعكس الخطأ الذي يشترط توافره لقيام المسؤولية الجنائية فإنه يجب أن يكون على درجة من الجسامة و مقياسه ما كان يفعله الشخص الذي وهب قدرا عاديا من الحيطة     و الإنتباه إذا ما وجد في الظروف التي كان فيها المتهم، و علة ذلك فالخطأ التافه الذي لا يحذره ولا يتقيه إلا من كانت يقطنه أو إنتباهه فوق متوسط الناس لا يكفي لتحقيق المسؤولية الجنائية، كمن ينظف زجاج نافذة في منزله فيسقط أحد ألواح الزجاج إلى الشارع و تصيب شظاياه أحد المارة لأن هذا اللوح الذي سقط لم يكن مثبتا تثبيتا سليما.

       و أخيرا فإن إنعدام المسؤولية الجنائية في كثير من الأحوال لا يمنع من قيام المسؤولية المدنية.

       ثانيا: يجب أن يؤدي الخطأ إلى حدوث نتيجة يعتبرها القانون أي ورد بها نص في القانون الجنائي: كالقتل و الجرح الخطأ و الحريق بإهمال ( م 452/3 )   و إهمال الحارس على الأختام إذا ترتب عليه فكها ( م 157) و ما إلى ذلك فإذا أدى الإهمال أو الخطأ إلى حدوث ضرر لا نص عليه في القانون أو لم يؤدي إلى ضرر مطلقا فلا تقوم المسؤولية الجنائية مهما كان الخطأ جسيما فمثلا إذا ألقى صبي حجرا و هو يلعب فأصاب متاعا لآخر و كسره عن غير قصد فلا محل للمسؤولية الجنائية لأن إتلاف المنقولات لا يعاقب عليها القانون إلا إذا كان متعمدا و كذلك الحال لو فرضنا أن شخصا و هو يجري إصطدم بإمرأة حامل فوقعت على الأرض          و أجهضت دون أن تحدث لها إصابة فلا محل للعقاب لأن القانون لا يعاقب على الإجهاض إذا نشأ عن إهمال بل لابد فيه من العمد.

       هذا و عادة ما يشدد القانون العقوبة بحسب جسامة النتيجة الناشئة عن الخطأ فإذا أدى الخطأ إلى الوفاة كانت العقوبة أشد مما لو أدى إلى إحداث جروح فقط      و هكذا.

       ثالثا: يجب أن يكون بين خطأ الجاني و النتيجة التي يعاقب عليها القانون رابطة السببية أي علاقة السبب بالمسبب بحيث لا يمكن أن تصور وقوع الضرر لو لم يقع الخطأ و بمعنى أوضح يجب أن يكون خطأ الجاني هو السبب في حدوث النتيجة، غير أنه كما سبق أن قدمنا، ليس من السهل أن نقرر ما إذا كانت علاقة السببية متوافرة بين الخطأ و النتيجة لأن هذه مسألة صعبة يترك تقديرها للقاضي   و ترجع صعوبتها كما ذكرنا سالفا إلى أمرين:

       1 إن النتيجة التي تنشأ أولا عن إهمال قد تضاعف: فهل يسأل الجاني عن كل النتائج التي ترتب على إهماله مهما بعد مداها، فمثلا إذا فرضنا أن شخصا يدرس قمحا في الحقل فوقعت عليه ثقاب من جيبه فأوقدت النار في الجرن ثم إمتدت منه إلى مساكن قريبة و تطايرت إلى منزل في نهاية القرية و به شخص فمات مختنقا أو أن شخصا تسبب بإهماله في قتل ثور لأحد الفلاحين فعجز صاحبه عن زرع أرضه فضاق به الحال و تراكمت عليه الديون فمات كمدا.

       في هذين المثالين و ما إليهما، صحيح أنه لو لا إهمال الجاني لما كان الحريق و لما مات صاحب الثور و لكن هذه نتائج بعيدة، و الراجع أن المتهم لا يسأل إلا عن النتائج المباشرة فهو يسأل جنائيا عن الحريق بإهمال في المثال الأول محل للمسؤولية الجنائية في المثال الثاني لأنه عقاب عن قتل الحيوان بإهمال.

2 أن هناك أسبابا أجنبية قد تتداخل في حصول النتيجة: أي أن الوفاة مثلا التي إنتهى إليها إهمال الجاني لم تنشأ عن إهمال فقط بل تداخل في حدوثها عامل أو عوامل أخرى و هذه العوامل الأجنبية قد تكون قوية قاهرة وقد تكون فعل إنسان كما لو قاد شخص سيارة بدون ترخيص فألقى شخص نفسه أمام السيارة فقتل أو من قاد سيارة ليلا و هو سكران فدهم آخر سكرانا أو إذا جرح شخص آخر بإهمال فنقل المجني عليه إلى المستشفى فإحترق المستشفى و مات في الحريق، أو عملت له عملية جراحية أهمل فيها الطبيب إهمالا فاحشا بأن إستعمل سلاحا غير معقم أو أهمل في علاج المصاب فأدى ذلك إلى موته ففي هذه الأمثلة و ما شابهها نجد إلى جانب إهمال الجاني سببا آخر ساهم في حصول النتيجة بنصب قليل أو كثير فهل تظل علاقة السببية قائمة رغم هذا السبب الأجنبي؟ الرأي المتبع في ذلك هو كما سبق أن أشرنا إليه، هو أن رابطة السببية بمعناها القانوني المقصود هنا تعتبر قائمة بين الخطأ و نتيجة معينة متى كان هذا الخطأ من شأنه أن يؤدي إلى هذه النتيجة إذا ما سارت الأمور سيرها العادي، أما إذا عرض لها ما يعتبر إستثناء وقفت مسؤولية الجاني عند الحد الذي بدأ فيه تداخل هذا السبب الشاذ، و المسألة قبل كل شيء مرجعها إلى تقدير القاضي، فإذا وجد السبب الشاذ أو السبب الأجنبي هو السبب الأساسي ألقى عليه عبء المسؤولية، فإن كان إنسانا تحمل نتيجة عمله و إن كان قوة قاهرة فالحادث قضاء و قدر، و إذا كان إهمال المجني عليه نفسه وقفت مسؤولية الجاني عند حد النتيجة الأولى و تطبيقا لذلك لا يسأل سائق السيارة عن موت من ألقى نفسه أمامها لأن إلقاء شخص نفسه أمام سيارة ليس بالسير العادي للأمور، كذلك لا يسأل الجاني عن خطأ الطبيب الفاحش كإستعماله سلاحا غير معقم لأن ذلك ليس بالسير العادي للأمور و يتحمل الطبيب مسؤولية الوفاة، أما قائد السيارة السكران فإنه يسأل عن جرح المجني عليه و إن كان سكرانا أيضا لأن وجود شخص في حالة سكر في طريق السيارة ليس بالأمر الشاذ و هكذا .

عوارض المسؤولية الجنائية: متى توفر العمد أو الخطأ في الجريمة على حسب كونها عمدية أو غير عمدية قامت المسؤولية الجنائية و إستحق المتهم العقاب غير أن هذه المسؤولية قد تعرض لها أسباب تعدمها أو تخففها أو تشددها.

     الأسباب المعدمة للمسؤولية الجنائية:
       أولا: موانع المسؤولية: و هي عبارة عن أسباب من شأنها إنعدام مسؤولية الفاعل شخصيا إذ يتنافى معها نسبة أي خطأ متعمد أو غير متعمد إليه و هذه الأسباب هي:

1 الجنون ( م 47 ع.ج )، 2)- الإكراه ( م 48 ع.ج )، 3)- صغر السن دون الثالثة عشر ( م 49 ع.ج ) و الحكمة من جعل هذه الأسباب مانعة من المسؤولية الجنائية أنها تعدم الإختيار عند المتهم فتنعدم المسؤولية تبعا لذلك و هي أسباب شخصية بحتة لا يستفيد منها إلا من يتحقق في شخصه سبب منها و هي كذلك تمحو فقط عقاب الفاعل و لكنها لا تمحو صفة الجريمة عن الفعل و يترتب على ذلك أنه إذا إشترك الشخص العاقل مع آخر مجنون مثلا في إرتكاب جريمة فالمجنون لا مسؤولية عليه، أما الشخص العاقل فإنه يظل مسؤولا.

       وقد نص على ذلك قانون العقوبات الجزائري في المادة 45 منه و نصها كالآتي: من يحمل شخصا لا يخضع للعقوبة بسبب وضعه أو صفته الشخصية على إرتكاب جريمة يعاقب بالعقوبات المقررة لها.
       إذا كان هناك محلا لذلك على أن إنعدام المسؤولية الجنائية المتقدمة لا يمنع من قيام المسؤولية المدنية.
       ثانيا: أسباب الإباحة: و هي عبارة عن أسباب تمحو صفة الجريمة عن الفعل فيصبح فعلا مباحا و يترتب على ذلك أن من إشترك في فعل من هذه الأفعال لا يسأل عنه جنائيا ولا مدنيا و تشمل هذه الأسباب ما يأتي:
     1 الدفاع الشرعي: ( م 49 و 40 ع.ج ).
     2 إذا كان الفعل قد أمر أو أذن به القانون ( م 39/1 ع.ج ).
       ثالثا: موانع العقاب: و هي عبارة عن أسباب مفردة في جرائم خاصة إذا توافرت تتنازل الهيئة الإجتماعية عن حقها في العقاب تحقيقا لمصلحة كبرى كالمحافظة على الرابطة العائلية أو تسهيل إكتشاف الجرائم. و مثال ذلك المادة 368 ع.ج التي تقضى بعدم العقاب على السرقات التي ترتكب من الأصول إضرارا بأولادهم أو غيرهم أو من الفروع إضرارا بأصولهم أو من أحد الزوجين أضرارا بالزوج الآخر.

و المادة 180/2 التي تنص على إعفاء أقارب و أصهار الجاني إلى الدرجة الرابعة من العقاب في حالة إخفائه أو الحيلولة دون القبض عليه.

       المادة 326/2 التي تعفى الخاطف من العقاب إذا تزوج بمن خطفها زواجها شرعيا لم يحكم ببطلانه و المادة 92 التي تعفي كل من يبلغ السلطات الإدارية      و القضائية عن جناية أو جنحة ضد أمن الدولة قبل البدء في تنفيذها و المادة 179 التي تعفي من عقوبة الإتفاق الجنائي كل من بادر من الجناة بأخبار الحكومة عن وجود هذا الإتفاق و عمن إشتركوا فيه المادة 199/1 التي تعفى الجناة من عقوبة تزييف المصكوكات إذا أخبروا الحكومة بجنايات التزييف قبل تمامها و قبل الشروع في البحث عنهم أو سهلوا القبض على باقي المرتكبين ولو بعد الشروع في البحث المذكور، و غير ذلك ما هو محدد في القسم الخاص من قانون العقوبات.

     الفرق بين موانع المسؤولية و أسباب الإباحة و موانع العقاب

موانع المسؤولية
أسباب الإباحة وقد عبر عنها القانون الجزائري بالأفعال المبررة
موانع العقاب
1) تمحو المسؤولية عن الفعل شخصيا مع بقاء الفعل في ذاته جريمة و لذلك لا يستفيد منها غيره ممن يساهمون معه في إرتكاب الجريمة كالمجنون.
1) تمحو صفة الجريمة عن الفعل فيصبح فعلا مباحا وعلى ذلك فإن كل من يساهم لا يعاقب عليه لأنه إنما يساهم في فعل مباح كالدفاع الشرعي.
1) لا تمحو صفة الجريمة عن الفعل ولا تمحو مسؤولية الفاعل و إنما تعفيه فقط من العقوبة و لذلك يعاقب كل من يشترك معه في إرتكاب الجريمة وقد نص عليها القانون في أكثر من موضع أو حالة.
2) لا تمنع من قيام المسؤولية المدنية.
2) تمنع من قيام المسؤولية المدنية.
2) لا تمنع من قيام المسؤولية المدنية.
       و الآن و بعد أن إستعرضنا إجمالا الأسباب التي تعدم المسؤولية الجنائية سنتكلم بعد ذلك عن كل سبب من هذه الأسباب بشيء من التفصيل مقتصرين فقط على موانع المسؤولية و أسباب الإباحة، أما موانع العقاب فلأن دراستها تدخل الجانب الإجرائي و كذا في القسم الخاص عقوبات سنكتفي بالإشارة إليها بإيجاز.

موانع المسؤولية:
       أولا: الجنون: تنص المادة 47 من قانون العقوبات الجزائري على أنه لا عقوبة على من كان في حالة جنون وقت إرتكاب الجريمة و ذلك دون إخلال بأحكام الفقرة 2 من المادة 21 و ظاهر من هذا النص أن المشرع لم يعرف الجنون و لكنه يقرر الإعفاء من المسؤولية الجنائية بسببه و إنما يشترط لذلك شرطان.

       الشرط الأول: أن يكون الشخص معدوم الإدراك و الإرادة وقت إرتكاب الجريمة بسبب الجنون و ذلك تطبيقا للمبدأ المقرر و هو أن الإرادة و الإدراك شرطان أساسيان لقيام المسؤولية الجنائية، و الجنون هو عارض من أعراض مرض يصيب العقل و يؤثر على المخ، و ينشأ عادة عن الإدمان على المخدرات أو الشهوات أو عن صدمة عنيفة في الحياة أو عن شدة الإنشغال بأمر ما الخ و لم يعرف القانون الجنون كما قدمنا بل ترك تحديده إلى الأخصائيين من الأطباء        و علماء النفس و إشترط فقط لكي يكون معفيا من المسؤولية الجنائية أن يترتب عليه إنعدام الإرادة، و هذه مسألة تقديرية يفصل فيها قاضي الموضوع.

       و يلحق بالجنون العته و البله فالمعتوه هو من وقف مخه عن النمو        و إستعداده العقلي لا يزيد على طفل في الثانية من عمره و الأبله يكون عقله كالطفل بين الثالثة و السابعة و كلاهما يعفى من المسؤولية، و هناك عاهات عقلية أخرى إشارت إليها التشريعات الحديثة ولم يشر إليها نص المادة 47 سالف الذكر و هذه العاهات هي بدورها إذا أصابت عقل الإنسان فأنها تعدم إدراكه و إرادته و إختياره و بالتالي فهي تعفيه من المسؤولية و منها على سبيل المثال:

       1) الصرع: و هي عبارة عن نوبات تعتري المريض فيفقد فيها رشده       و يندفع نحو إرتكاب الجرائم، ولا مسؤولية عليه في هذه الحالة.

       2) يقظة النائم و المريض: بها يقوم من نومه و يأتي بأفعال مختلفة و كأنه في حلم و متى إستيقظ لا يذكر من فعله شيئا، فإذا إرتكب النائم جريمة و هو في هذه الحالة فلا نزاع في إنعدام مسؤوليته لإنعدام شعوره و إختياره.

       3) التنويم المغناطيسي: و فيه يخضع النائم لإرادة المنوم و يأتي الأفعال التي يمليها عليه دون أن يكون له إرادة فيها، فهو مجرد آلة صماء ينفذ ما أدلى إليه به في حالة التنويم، و في هذه الحالة أيضا متى ثبت أن الجاني كانت إرادته معطلة تماما و أنه لم يكن له إختيار في عمله فلا مسؤولية عليه. تلك هي بعض صور العاهة العقلية التي تعدم الإدراك و الإرادة و تعدم المسؤولية الجنائية تبعا لذلك.

       أما العواطف فإنها مهما كانت قوية جامحة فإنها لا تعدم المسؤولية الجنائية فمن يرتكب جريمة تحت تأثير عاطفة جامحة أثرت في شعوره و إختياره ولم يقوى على مغالبتها كالحب الشديد أو البغض الشديد أو الغيرة أو الإنتقام أو ما إلى ذلك فإنه لا يعفى من المسؤولية الجنائية.

       الشرط الثاني: أن يكون الجنون معاصرا للجريمة، أعني أن يكون الشخص وقت إرتكاب الجريمة فاقد الإدراك لجنون أو عاهة عقلية، فمثلا إذا كان جنون الشخص منقطعا أعني أنه يأتي في فترات مختلفة يعقبها فترات راحة و عقل، فلا نزاع في أنه يكون مسؤولا عن كل ما يرتكبه في فترات إفاقته و على العموم فإن جنون المتهم قبل إرتكاب الجريمة يعد قرينة على جنونه وقت إرتكابها و يعفى من المسؤولية الجنائية في هذه الحالة.

       أما الجنون الطارئ بعد إرتكاب الجريمة فلا يترتب عليه إلا إيقاف محاكمة المتهم حتى يشفى و إذا حصل الجنون بعد الحكم، فإن كان هذا صادرا بعقوبة بدنية كالإعدام أو مقيدة للحرية كالسجن و الحبس يوقف تنفيذه لحين شفاء المحكوم عليه أما الحكم بالغرامة و المصادرة فيجوز تنفيذه على أموال المجنون دون إنتظار لشفائه.

       و في جميع الأحوال إذا ما ثبت أن المتهم قد إرتكب الجريمة بسبب خلل في قواه العقلية أو إعتراه ذلك بعد إرتكابها فإن القاضي يطبق عليه نص المادة 21     و يأمر بوضعه في مؤسسة مهيأة لهذا الغرض و يثبت ذلك في حكمه.
السكر قانونا: إن السكر، هو سبب من أسباب تشديد العقوبة، بإعتباره من الأشياء المسهلة لتنفيذ الجرم. هذا ما نصت عليه المادة 290 من ق.ع.ج، لكن الفقهاء يميزون بين السكر الإختياري و الإضطراري.

       فالسكر الإختياري: أن يتناول الشخص المادة المسكرة أو أي شيء يوقعه في غيبوبة بشرط أن تكون لإرادة المتهم دخل في ذلك، سواء كان ذلك عن عمد       أو خطأ. فالعمد كان يتناول الشخص مادة يعلم أنها مسكرة و بإختياره قاصدا من وراء ذلك تنفيذ خطة إجرامية، فهنا المسؤولية كاملة بظرف التشديد، أما غير العمدية أو الخطأ، كان يتناول الشخص مادة مسكرة بإختياره دون أن يكون قاصدا إرتكاب الجريمة و لكن بمفعول تلك المادة إرتكب الجرم، فالمسؤولية قائمة على أساس الإهمال (الخطأ).

       أما السكر الإضطراري: المعفي من تحمل المسؤولية الجنائية، فهو تناول الشخص المادة المسكرة عن غير علم، بمعنى أن لا يكون لإرادة المتهم دخل في إحداث حالة السكر سواءا عمدا أو خطأ، كان يقدم له الغير قدحا فيرتشف ما به عن حسن نية، فتحدث له غيبوبة فيندفع لإرتكاب الجريمة، فلا مسؤولية عليه.

       معاملة المجانين: المعاملة:
       الإدارية: يحرر تقرير عن الوقائع غير المجرمة (التجول في الشارع، الهذيان...الخ) مع الظروف الشخصية للمجنون، مضافا إليه تسخير موجه لرئيس الشرطة الإدارية الوالي أو نائبه في مجال حفظ النظام العام، رئيس الدائرة         أو رئيس البلدية، ثم يوضع المجنون في غرفة الحجز التحفظي، أو يبعث إلى مكان مخصص لذلك (المتشردين أو العجزة).

       التقرير يساوي إجراءات وقائية حتى إيجاد حل إجتماعي للتحكم في الخطورة الإجتماعية بوضع المجنون بمؤسسة علاجية.

       - القضائية: زيادة على الملف الإداري يكتب محضر عن الوقائع           و الظروف الشخصية للمجنون (عندما يرتكب فعل مجرم) مع التكييف الجزائي لطبيعة الجريمة، و يرسل إلى نيابة الجمهورية التي تتخذ أحد الإجرائين: إما طلب إجراء خبرة طبية أو إحالة الملف إلى قاضي التحقيق لإتخاذ إجراءات قضائية للمتابعة الجزائية.

       التكفل: المجنون غالبا ما يشكل خطرا على نفسه و على غيره، و قد وضع المشرع الجزائري عدة إجراءات و تنظيمات للتكفل بهاته الفئة من المرضى:

       - إجراءات عادية: كانت تقوم بها مصالح الأمن بتسخير مصالح الحماية المدنية و مصالح البلدية و المصالح الصحية، غير أن التنظيمات الأخيرة كلفت مصالح البلدية و مصالح الصحة بالتكفل مباشرة بهاته الفئة من المرضى.

       - مصالح البلدية في الحالات العادية: تأخذ المجنون إذا شكل خطرا معينا على نفسه أو غيره، وتقوده للفحص عند طبيب مختص بالمصالح الصحية، هذا الأخير يقرر إما تركه بعد معالجته مباشرة أو وضعه في عيادة أو مستشفى مختص لفترة قليلة و تتكفل بهذا الإجراء المصالح الصحية و كذلك بالنسبة لنقله.

       - الطريقة نفسها يمكن أن تتخذ إذا تدخلت مصالح الأمن بمعية مصالح البلدية، قصد التكفل بمجنون يشكل خطرا مباشرا على الأمن العمومي.

       إجراءات أخرى ذكرها قانون الصحة: الوضع في مصلحة صحية مختصة بطلب من الوالي و يتطلب تكوين ملف يحتوي على عدة وثائق من بينها الطلب      و الفحص، و القرار الطبي. هذا الطلب يرسل إلى الوالي عن طريق رئيس البلدية مثلا الذي يقرر وضع المريض بقرار ولائي يحدد فيه المدة المرضية.

       - الوضع الإجباري: هذا الوضع يتم بطلب من مصالح الأمن أو مصالح أخرى (بلدية أو غيرها). حيث يتم عرض الخطر الذي يشكله المريض على نفسه أو على غيره، و يكون ملف إداري و يرسل إلى الوالي الذي يقرر وضع المعني بالأمر في مؤسسة صحية بصفة جبرية.

       و الإجراء نفسه يمكن أن يتم كذلك بتقرير يرسل إلى النائب العام، مرفوقا بالوثائق اللازمة (الصحية أو غيرها)، و خاصة تلك التي تتعلق بالخطر و الضرر الذي ألحقه المجنون بغيره، سواء كان ضررا جسديا أو ضررا معنويا.

       - و بما أن المجنون يستفيد من موانع المسؤولية الجنائية فإن النائب العام يتخذ بشأنه إجراء الوضع الإجباري في مؤسسة صحية إلى غاية تهدئته أو شفائه.

ثانيا: الإكراه: تنص المادة 48 من قانون العقوبات الجزائري على أنه: لا عقوبة على من إضطرته إلى إرتكاب الجريمة قوة لا قبل له على دفعها، و هذا ما يعبر عنه بالإكراه: فالإكراه هو عبارة عن كل ما يواجه الشخص من مؤثرات داخلية أو خارجية يكون شأنها أما إعدام إرادته إعداما تاما أو أضعافها ضعفا لا يجد مناصا من إرتكاب الجريمة فيرتكبها رغما عنه.
     و الإكراه على نوعين: 1 مادي. 2 أدبي.

       1 الإكراه المادي: و هو عبارة عن الظرف القاهر الذي يسيطر على الشخص و يؤدي به إلى إرتكاب الجريمة دون أن يكون له أي إختيار في إرتكابها بمعنى أن الشخص في هذه الحالة يصبح مجرد ألعوبة في يد تلك القوة القاهرة، فالجريمة كانت واقعة حتما بصرف النظر عن إرادته و يستحيل عليه درؤها.

       و هذا الظرف القاهر قد يكون ناشأ عن فعل الطبيعة كعاصفة تهب فتلقى شخصا على آخر فيقتل هذا الأخير أو يجرح، أو تطفئ مصباحا على حفرة ليلا أو مصباح سيارة تسير في الطريق، أو تحمل ملابس شخص يستحم في نهر و تلقى بها مع التيار فيضطر للخروج عاريا، ففي هذه الأحوال لا يسأل الشخص عن القتل أو عن عدم وضع مصباح على حفرة ليلا أو على السير بدون نور أو على الفعل العلني الفاضح و هكذا .

       و قد ينشأ هذا الظرف من فعل حيوان كمن يجمح به جواد أزعجته أصوات فجأة دون أن يكون هناك إهمال من راكبه فيقتل شخصا لا يسأل الراكب عن القتل الخطأ:

       أو إذا بدى ذئب لقطيع من الغنم فتفرق و نزل في زراعة شخص فأتلفها لا يعاقب الراعي. و أخيرا قد ينشأ هذا الظرف من فعل إنسان كمن يجرد آخر من ملابسه عنوة في الطريق العام لا يسأل هذا الأخير عن الفعل العلني الفاضح. و من يأخذ إبهام شخص آخر بالقوة و يبصم به على عقد مزور لا يسأل هذا الأخير عن التزوير و من يحبس شخصا آخر و يمنعه عن الذهاب إلى المحكمة لأداء الشهادة لا يسأل عن التخلف عن أداء الشهادة و من يدفع آخر على ثالث فيقتله لا مسؤولية على هذا الشخص الأخير و هكذا.

       أما العواطف الجامحة كالخوف و الغضب و الحب و ما إليها. فالرأي مجمع على أنها لا تعتبر حالة إكراه مادي ولا تعفى من المسؤولية الجنائية و أما النوم كما في حالة المسافر بالسكة الحديدية الذي ينام فيتجاوز المحطة التي يريدها دون أن يشعر فإنه يسأل عن الركوب بدون تذكرة. لأن عدم تغلبه على النوم يعد خطأ من جانبه إلا إذا ثبت فعلا أن الراكب سافر سفرا طويلا متعبا و أن حالته الصحية لا تمكنه من مغالبة النوم فأنه يكون مغلوبا على أمره و يعفى من العقاب.

       2 الإكراه الأدبي أو المعنوي: و يكون حيث يدفع الشخص لإرتكاب الجريمة تحت تأثير الخوف من خطر جسيم يهدده أو يهدد غيره.

       ففي هذه الحالة يكون المتهم حر الإختيار إلى حد ما. و لكن الظرف القاهر يضغط على حريته لدرجة أنه يخيره بين شرين فيختار أهونهما مدفوعا بغريزته الطبيعية.

       و قد يكون هذا الخطر الجسيم الذي يتهدد الشخص في نفسه أو نفس غيره موجها إلى الشخص عمدا لإرغامه على إرتكاب الفعل المكون للجريمة فيرتكبه تفاديا لهذا الخطر و تسمى هذه الحالة بحالة الإكراه الأدبي أو المعنوي و غالبا ما تنشأ هذه الحالة عن فعل إنسان كمن يرتكب سرقة تحت تأثير التهديد بالقتل لا يسأل عن السرقة و المرأة المتزوجة تغتصب تحت تأثير التهديد بقتلها أو قتل طفلها لا يمكن معاقبتها كزانية وسائق السيارة الذي ينقض عليه اللصوص فيسلمهم ما معه من البضائع التي أؤتمن عليها تحت تأثير تهديدهم أياه بالقتل لا يعاقب على التبديد   و كالمتفرج في السينما الذي يدفع شخصا آخر أمامه عندما يندفع الناس للخروج بسبب حريق شب فيها فيقتله لا يعاقب على القتل و هكذا.

       و قد لا يكون الخطر موجها إلى الشخص عمدا لإرغامه على إرتكاب الجريمة. بل يكون نتيجة ظروف وجد فيها الشخص فيعمل على الخلاص من هذا الخطر ولا يجد أمامه سبيلا لذلك إلا إرتكاب جريمة و تسمى هذه الحالة بحالة الضرورة.

       و الأمثلة على حالة الضرورة كثيرة كمن يهدم حائطا لجاره إشتعلت فيه النار خوفا على حياة ذويه لا يعاقب طبقا للمادة 48 ق.ع.ج ، و من يأخذ ماء من صهريج لآخر لإطفاء حريق خوفا على حياته أو حياة سكان منزله لا يعتبر سارقا. و من يسعف آخر في حالة إصابة لا يعتبر مسؤولا عن ممارسة مهنة الطب بدون تصريح، و من يتناول رغيفا من الخبز من عند بائع و يلقي به إلى كلب يريد أن ينقض عليه لا يسأل عن السرقة. و من يخرج من الحمام عاريا لحريق إشتعل فيه لا يسأل عن الفعل العلني الفاضح، و من ينتبه فيجد شخصا يصوب عليه بندقيته فلا يجد أمامه سوى شخص آخر فيضعه أمامه يتقى به الرصاصة هنا لا يسأل عن قتل هذا الأخير. و من يقتلع شجرة و يلقي بها في الماء لينفذ آخر على وشك الغرق لا يعاقب بالمادة 450 ق.ع.ج، و من يكاد يهلك من الجوع فيسرق رغيفا يسد به رمقه أو رمق أولاده لا يعاقب على السرقة و هكذا.

ما الذي يترتب على حالة قيام الإكراه بنوعية: تنص المادة 48 ق.ع.ج من قانون العقوبات على أنه: ( لا عقوبة على من إضطرته إلى إرتكاب الجريمة قوة لا قبل له بدفعها). و المقصود بالقوة التي لا قبل للمتهم بدفعها حالتي الإكراه          و الضرورة.

       فالقانون إذن يعفى المتهم من المسؤولية عن الجريمة إذا إرتكبها تحت حالة إكراه أو ضرورة و إنما يشترط لهذا الإعفاء توافر الشروط الآتية:

       أولا: يجب أن يكون هناك خطرا جسيما يهدد النفس: و يقصد بالخطر الجسيم الذي يهدد إنسانا في حياته أو بإصابته بأذى بليغ.

       فإذا كان الأذى الذي ينجم عن الخطر تافها فأنه لا يبرر الإعفاء من المسؤولية. فمثلا مجرد الخوف من البرد أو الجوع لا يبرر سرقة غطاء الغير أو طعامه ، اللهم إلا إذا كان يخشى منهما الهلاك . فعندئذ لا عقاب على من يأخذ طعام الغير أو غطائه بقدر ما تستدعيه الضرورة.

       أ) يجب أن يكون الخطر مهددا للنفس سواء نفس الجاني أو نفس غيره بصرف النظر عما إذا كانت تربطه به صلة أم لا. فإذا كان الخطر مهددا للمال فقط فأنه لا يبيح إرتكاب الجريمة و هذا ما يفرق بين حالة الإكراه و حالة الدفاع الشرعي كما سنرى فيما بعد. فالطبيب الذي يضحي بالجنين لإنقاذ حياة أمه عند تعسر الوضع يعتبر في حالة ضرورة أما إذا كان الخطر يهدد مجرد السمعة أو الشرف فلا إعفاء في هذه الحالة. كالمرأة التي تقتل طفلها الذي حملت فيه سفاحا خشية العار لا تعفى من العقاب. ب) و يجب أيضا أن يكون الخطر حقيقيا لا وهميا. فمن يرتكب جريمة تحت تأثير أشباح خرافية تهدده بالقتل لا يعفى من العقاب و على كل حال يجب هنا مراعاة حالة الجاني و درجة تقديره.

       ج) أخيرا يجب أن يكون الخطر مشروعا: فالسجان الذي يساعد محكوما عليه بالإعدام على الهرب لا يجوز له أن يدفع مسؤوليته عن الجريمة بأنه إرتكب الفعل لضرورة وقاية نفس غيره من خطر جسيم و هو الإعدام.

       ثانيا: يجب أن يكون الخطر حالا على وشك الوقوع بشخص الجاني أو شخص غيره: فإذا كان أجلا فلا مبرر للإعفاء. فمن يهدد شخصا آخر بقتله أن لم يشترك معه في إرتكاب جريمة معينة بعد بضعة أيام فإن ذلك لا يعفى من وقع عليه التهديد من المسؤولية.

       ثالثا: يجب أن لا يكون الجاني هو السبب في حلول ذلك الخطر: فمن وضع النار عمدا في مسرح و كان هو بداخله لا يعفى من العقاب إذا قتل شخصا و هو يحاول الفرار خوفا من الحريق و ظاهر أنه يجب لكي يمتنع الإعفاء أن لا يكون الجاني قد تسبب عمدا في حدوث الخطر فإذا كان قد نشأ عن إهماله فلا يمنعه ذلك من أن يدرأ مسؤوليته عن الجرائم التي يرتكبها دفعا لهذا الخطر بحالة الضرورة كما لو كان الحريق في المثال السابق ناشئا عن إهمال الجاني.

       رابعا: يجب أن لا يكون في قدرة الفاعل إتقاء الخطر بأية وسيلة أخرى: فإذا كان يستطيع درء الخطر بوسيلة غير إرتكاب الجريمة، فلا يعفى من المسؤولية. فمثلا إذا إشتعلت النار في مكان ما و كان من السهل إطفاؤها فأن ذلك لا يسوغ هدم منزل مجاور. و إذا كان من الممكن درء الخطر بإرتكاب جريمة أقل فلا يعفى الجاني من المسؤولية إذا إرتكب جريمة أشد فمثلا لو أوشكت سفينة على الغرف يجب إلقاء ما بها من البضائع أولا لإنقاذ حياة الأشخاص. و على العموم فإن لقاضي الموضوع السلطة المطلقة في تقدير الأفعال التي تكون الإكراه أو الضرورة مع مراعاة حالة كل شخص من حيث كونه ضعيفا أو قويا شيخا أم شابا، ذكر أم أنثى.

       أما إثبات قيام حالة الإكراه أو الضرورة فيقع عبؤه على الشخص الذي يدفع بأيهما.

ثالثا: صغر السن: عرفنا فيما تقدم أن القانون الجنائي يستلزم لقيام المسؤولية الجنائية أن يكون الشخص ذا إرادة مميزة تفرق بين الخير و الشر و لما كان المجرم الصغير السن لم يكتمل بعد نموه العقلي كان طبيعيا أن يقدر القانون حالته هذه فإذا عده مسؤولا فمسؤوليته مخففة و إذا جازاه فابتغاء تقويمه قبل كل إعتبار آخر للإقتصاص منه.

       وقد تكلم المشرع الجزائري عن مسؤولية المجرم الحدث في المواد من 49 إلى 51 من قانون العقوبات. و منها يتضح أنه حدد سن عدم التمييز بما هو دون الثالثة عشر و سن الرشد الجنائي أو المسؤولية الكاملة بالثامنة عشر.

       فنصت المادة 49 على ما يأتي: لا توقع على القاصر الذي لم يكمل الثالثة عشر إلا تدابير الحماية و الأمن.

       و مع ذلك ففي مواد المخالفات لا يكون محلا إلا للتوبيخ.

       و يخضع القاصر من 13 إلى 18 سنة لتدابير الحماية أو التربية أو العقوبات المخففة و نصت المادة 50 على ما يأتي: إذا تقرر وجوب الحكم على القاصر من 13 إلى 18 سنة بعقوبة جنائية فتكون على النحو التالي:

       - إذا كانت العقوبة التي يستحقها هي الإعدام أو السجن المؤبد، يحكم عليه بدلا منها بالحبس من 10 إلى عشرين سنة.
       - و إذا كانت العقوبة الحبس أو السجن المؤقت فيحكم عليه بالحبس لمدة مساوية لنصف المدة التي كان سيحكم بها عليه لو كان بالغا.

       و نصت المادة 51 على ما يأتي: في مواد المخالفات يكون القاصر ما بين 13 و 10 سنة محلا أما للتوضيح أو العقوبة الغرامة.

       و يؤخذ من هذه النصوص أن قانون العقوبات قد قسم المدة التي تمضي ما بين الولادة و بلوغ الرشد الجنائي إلى دورين:

       الدور الأول: و يبدأ منذ الولادة إلى سن الثالثة عشر، و في هذا الدور يفترض المشرع عدم توافر التمييز لدى الصغير، بالتالي يعتبر غير أهل للمسؤولية و هذا الإفتراض غير قابل لإثبات العكس بمعنى أنه لا يجوز إقامة الدليل على توافر التمييز لدى الصغير دون هذا السن، و إنما تقتصر نتيجة ذلك على عدم توقيع عقوبات جنائية عليه و لكنه يجوز أن يكون محلا لتدابير الحماية و التربية، و هي نوع من تدابير الأمن تفرض على الصغير إذا كان يشكل خطرا على المجتمع يستوجب درءه.

       و لكن هل يجوز أن يكون الصغير في هذا السن محلا لتدابير الحماية       و التربية أيا كانت سنه أي حتى ولو كان في السادسة من عمره أم أنه لابد من حد أدنى للتمييز أو أن يرتكب الصغير جريمة تنم عن خطورته أو شخصيته الإجرامية؟.

       لم يعترض القانون الجزائري لهذا الأمر و يبدو في نظرنا أنه تركه لتقدير القاضي الذي يجب عليه فحص حالة الصغير بواسطة أهل الخبرة من الأطباء       و تقدير ما إذا كانت حالته تستدعي تطبيق تدابير الحماية و التربية ضده أم لا.

       الدور الثاني: و يبدأ هذا الدور من سن الثالثة عشر إلى الثامنة عشر، و في هذا الدور يفترض المشرع أن القاصر قد بلغ قدرا من التمييز يجعله أهلا لتحمل قدر من المسؤولية الجنائية فإذا ثبت للقاضي أن الصبي الذي تجاوز الثالثة عشر من عمره قد توافرت له القدرة على التمييز إعتبره مسؤولا مسؤولية جنائية عن فعله ووقع عليه العقوبات المخففة طبقا للمادة 50 السابق الإشارة إليها، و إلا طبق عليه تدابير الحماية والتربية التي يخضع لها القاصر دون الثالثة عشر أو فيها بين الثالثة والثامنة عشر فقد - نص عليها قانون- الإجراءات الجنائية في المادة 444 و هي:

1)- تسليمه لوالديه أو لوصية أو للشخص الذي يتولى حضانته أو شخص جدير بالثقة.
2)- تطبيق نظام الإفراج عنه مع وضعه تحت المراقبة.
3)- وضعه في منظمة أو مؤسسة عامة أو خاصة معدة للتهذيب أو التكوين المهني مؤهلة لهذا الغرض.
4)- وضعه بمؤسسة طبية أو طبية تربوية مؤهلة لذلك.
5)- وضعه في خدمة المصلحة العامة المكلفة بالمساعدة.
6)- وضعه في مدرسة داخلية لإيواء الأحداث المجرمين في سن الدراسة.
7)- وضعه في مؤسسة عامة لتهذيبه تحت المراقبة أو للتربية الإصلاحية بالنسبة لمن جاوز الثالثة عشر.

       و هذه التدابير كلها ليست لها مدة معينة يحددها القاضي، بل يجوز له الرجوع عنها في أي وقت. ولا يجوز بأية حال من الأحوال أن تتجاوز هذه التدابير تاريخ بلوغ القاصر سن الثامنة عشر.

الأفعال المبررة: أسباب الإباحة: و هذه الأسباب هي التي إذا توافرت فإنها تمحو صفة الجريمة عن الفعل و تجعله فعلا مباحا كما قدمنا. وقد نص عليها، قانون العقوبات الجزائري في المادتين 39 و 40 منه فنصت المادة 39 على ما يأتي: لا جريمة إذا كان الفعل قد أمر أو أذن به القانون.

       إذا كان الفعل قد دفعت إليه الضرورة الحالة للدفاع المشروع عن النفس أو عن الغير أو عن مال مملوك للشخص أو للغير بشرط أن يكون الدفاع متناسبا مع جسامة الإعتداء.

       و نصت المادة 40 على ما يأتي: و يدخل ضمن حالات الضرورة الحالة للدفاع المشروع.

       1 القتل أو الجرح أو الضرب الذي يرتكب لدفع إعتداء على حياة الشخص       أو سلامة جسمه أو لمنع تسلق الحواجز و الحيطان أو مداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو توابعها و كسر شيء منها أثناء الليل.

       2 الفعل الذي يرتكب للدفاع عن النفس أو عن الغير ضد مرتكبي السرقات        و النهب بالقوة.

       و واضح من هذين النصين أن المشرع الجزائري يقرر نوعين من أسباب الإباحة هما: إستعمال الحق الذي يخوله القانون، و الدفاع الشرعي.

فإستعمال الحق الذي يخوله القانون: تنص الفقرة الأولى من المادة 39 من قانون العقوبات على ما يأتي: لا جريمة إذا كان الفعل قد أمر أو أذن به القانون.

       و هذا النص لم يأت بجديد. و أنما قرر مبدأ تقضي به طبيعة الأشياء إذ ليس مما يتفق مع العقل و المنطق أن يخول القانون للإنسان إتيان فعل من جهة ثم يعاقبه عليه من جهة أخرى. فيسلبه بالشمال ما منحه باليمين:

       و يشترط لتطبيق هذا النص و تبرير الفعل الذي يرتكب إستنادا عليه شرطان:

       أولا: أن يكون الفعل قد أمر به القانون أو أذن به:
أ)- أمر القانون: فإنه يكون موجها إلى أي فرد من الأفراد سواء أكان موظفا عاما أو شخصا عاديا. كما في حالة قيام شخص بالقبض على أحد الجناة    و هو في حالة تلبس بإرتكابه جناية أو جنحة ثم إقتياده إلى مقر الشرطة فإن هذا العمل لا يعتبر إعتداء على حرية المقبوض عليه لأن القانون قد أمر به الكافة في المادة 61 من قانون الإجراءات الجزائية و من ثم فلا عقاب على فاعله طبقا لها.    و كذلك الطبيب الذي يبلغ عن حالة مرض معدى لا يعتبر مرتكبا لجريمة إفشاء الأسرار المعاقب عليها طبقا للمادة 301 لأن القانون يأمره بذلك.

       و لكن ما الحكم إذا صدر من السلطة العامة أو من أحد الرؤساء أمر مخالف للقانون و قام موظف بتنفيذه رغم ما فيه من إعتداء على حقوق الأفراد. هل يعتبر فعل هذا الموظف مباحا و يعفى من المسؤولية الجنائية ؟ كما لو دخل أحد رجال القوة العمومية منزل أحد الموظفين بغير رضائه تنفيذا لأمر صدر من سلطة مختصة أو من أحد رؤسائه،  و لكن بدون سند قانوني. الإجابة على ذلك أن يعاقب بعقوبتي الحبس لمدة من شهرين إلى سنة و الغرامة من 500 إلى 2000 دينار طبقا لنص المادة 135 من قانون العقوبات. بل و يضاف إلى ذلك أنه وقد إعتبر عمل الموظف غير مشروع فإنه يجيز لصاحب المنزل إستعمال حقه في الدفاع الشرعي ضده.

       و بالنسبة لمن أصدر الأمر المخالف للقانون فإن عمله يعتبره القانون جناية    و يعاقبه عليه بالسجن المؤقت من خمس إلى عشر سنوات طبقا للمادة 107 عقوبات إذا كان قد أمر بعمل تحكمي أو فيه مساس سواء بالحرية الشخصية للفرد أو بالحقوق الوطنية لمواطن أو أكثر.

ب)- الأفعال التي يأذن بها القانون: فهي التي يخول فيها القانون لصاحب الحق إستعمال حقه في الحدود المقررة لذلك، كحق الطبيب في مباشرة الأعمال الطبية فإن هذه الأعمال تستلزم بطبيعتها المساس بجسم المريض كأحداث جرح به أو إستعمال عضوا و إزالة تشويه أو ما إلى ذلك فمثل هذه الأفعال التي يجرمها القانون لو صدرت من الشخص العادي لا يسأل عنها الطبيب ولا عن نتائجها حتى ولو أدت إلى الوفاة مادام أنه مرخص له في مزاولة مهنة الطب و أنه لم يقصد من هذه الأعمال سوى مجرد العلاج و بشرط أن يحصل على موافقة المريض على إجراء العملية الجراحية له إذا كانت حالته تسمح بالحصول على هذه الموافقة، فإذا كانت لا تسمح بذلك فللطبيب إجراء العملية، دون موافقته و يعفى من المسؤولية عن نتائجها إستنادا إلى حالة الضرورة.

       و من الأفعال التي يأذن بها القانون ايضا الألعاب الرياضية، و هذه بدورها تستلزم إستعمال العنف و المساس بسلامة جسم اللاعب، كما هو الحال في الملاكمة و المصارعة و كرة القدم، فما هو الحكم بالنسبة للإصابات التي تنشأ عنها؟ القاعدة أن هذه الألعاب لا تنشأ عنها مسؤولية جنائية لأن اللعب في ذاته مشروعا ما لم يتجاوز اللاعب الذي يحدث إصابة بلاعب آخر حدود النظام و قواعد اللعب.

       فإن أخطأ في إتباع أصول اللعبة فإنه يسأل عن الإصابة التي يحدثها بإعتبارها ناشئة عن إهماله و عدم إحتياطه أي إعتبارها غير عمدية.

       أما إذا إنتهز أحد اللاعبين فرصة اللعب و أراد أن يشفى حقده من خصمه    و أحدث به إصابات لا تسمح بها أصول اللعبة فلا شك أنه يعتبر ضاربا أو جارحا عمدا بحسب الأحوال.

       هذه هي الأفعال المبررة التي يأمر أو يأذن بها القانون و يعتبرها أفعالا مباحة و يرى غالبية الشراح و العديد من التشريعات الأخرى أن الأفعال التي تبيحها الشريعة الإسلامية تأخذ حكم الأفعال التي يجيزها القانون كحق الزوج في تأديب زوجته أو الولي لمن هو في ولايته بشرط أن لا يحدث التأديب به ضررا أو أية آثار بجسمه، و أن لا يخفي هذا التأديب نية الإنتقام. فالزوج الذي يضرب زوجته بعامل البغض و الكراهية لا رغبة في تأديبها و كذلك المعلم الذي يضرب تلميذه إنتقاما من والده فإن كلاهما يعتبر مسؤولا جنائيا عن جريمة الضرب و ما قد يتخلف عنه من أثار.

       ثانيا: الدفاع الشرعي: الدفاع الشرعي هو عبارة عن دفع الإعتداء بالقوة    و الفرق بينه و بين حالة الضرورة أن الإنسان في حالة الضرورة يكون في موقف المهاجم فيرتكب جريمة لإنقاذ نفسه من خطر محقق يهدده. أما في حالة الدفاع الشرعي فإنه يقف موقف المدافع عن نفسه ضد إعتداء يهدده في نفسه أو في ماله.

       فالقانون يبيح للشخص أن يدفع الأذى عن نفسه أو عن ماله ولو إرتكب في سبيل ذلك فعلا معاقبا عليه. إذا لا يعقل أن يقف الإنسان مكتوف اليدين أمام خطر جسيم يهدده في نفسه أو ماله غير أنه نظرا لأن هذا الحق قد يساء إستعماله فقد قيده القانون بقيود و شروط دقيقة وقد نص عليه قانون العقوبات الجزائري في المادة 39 و المادة 40/1و2 منه فنص في الفقرة الثانية من المادة 39 على ما يأتي: لا جريمة إذا كان الفعل قد دفعت إليه الضرورة الحالة للدفاع عن النفس أو عن الغير أو عن مال مملوك للشخص أو للغير بشرط أن يكون الدفاع متناسبا مع جسامة الإعتداء، و نص في المادة 40 على ما يأتي: ف 1 القتل أو الجرح أو الضرب الذي يرتكب لدفع إعتداء على حياة الشخص أو سلامة جسمه أو لمنع تسلق الحواجز          و الحيطان أو مداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو توابعها أو كسر شيء منها أثناء الليل.

       ف 2 الفعل الذي يرتكب للدفاع عن النفس أو عن الغير ضد مرتكبي السرقات أو النهب بالقوة.

و يشترط طبقا لهذين النصين لقيام حالة الدفاع الشرعي التي يستباح فيها إرتكاب الجرائم توافر الشروط الأربعة الآتية:
       أولا: يجب أن يكون هناك إعتداء يعتبر جريمة:        فإذا كان الفعل مباحا كالوالد الذي يضرب إبنه أو الطبيب الذي يجري عملية جراحية فإن ذلك لا يبيح حق الدفاع الشرعي ضدهما.
       و الإعتداء قد يكون واقعا على نفس الشخص أو ماله أو على نفس غيره أو مال غيره كما أنه قد يكون خفيفا وقد يكون جسيما و هو في جميع الأحوال يجيز إستعمال حق الدفاع الشرعي. و إنما يجب مراعاة التناسب بين فعل الدفاع و فعل الإعتداء. فإذا خشى المعتدى عليه القتل أو إصابته بجراح بالغة من يد المعتدى حق له أن يدرء هذا الإعتداء بالقتل أو بإصابة خصمه بجرح خطير أما إذا كان يريد صفعه مثلا فلا يحل له أن يدفع هذا الخطر إلا بإيذاء مناسب كان يدفعه بيده أو يوقعه على الأرض و هكذا.

       و الإعتداء على النفس يتخذ صورا متعددة. فقد يكون الفعل مهددا للشخص في حياته أو في سلامة جسمه كجرائم القتل و الجرح و الضرب أو في عرضه كالوقاع و هتك العرض أو في حريته كالحبس بغير وجه حق و الخطف، و في كل هذه الأحوال يجوز للشخص إستعمال الدفاع الشرعي بلا شبهة ولا خلاف. أما إذا كان الإعتداء مكونا فقط لجريمة ماسة بالشرف و الإعتبار كالقذف و السب فإنه لا يبيح الدفاع الشرعي إطلاقا.

       و أما الإعتداء على المال فهو كالحريق العمدي و إستعمال المفرقعات        و جرائم السرقة و الإغتصاب و إنتهاك حرمة ملك الغير. و ما إليها. فإذا تعرض الإنسان في ماله لأحدى هذه الأفعال جاز له إستعمال حق الدفاع الشرعي لدفعها.

       فالمهم إذن أن يكون هناك إعتداء يعتبر جريمة، فإن كان الإعتداء مشروعا فلا يكون للدفاع الشرعي وجود كالمتهم الذي يطلق النار على شرطي يتبعه للقبض عليه لا يكون له أن يحتج بأنه كان في حالة دفاع شرعي ضد شرطي لأن عمل هذا الأخير ليس إلا عملا مشروعا يوجبه عليه القانون.

       ولا يشترط أن يكون هذا الإعتداء واقعا من شخص مسؤولا جنائيا. بل أن الدفاع الشرعي جائز في جميع الأحوال حتى ولو كان المعتدى مجنونا أو سكرانا أو كان في حالة إكراه معنوي.

       و من باب أولى يجوز الدفاع أيضا ضد المعتدى إذا لم يكن معفى من العقاب كلية بل كان له عذر قانوني يدعو إلى تخفيف مسؤوليته كحالة صغر السن كالزوج الذي يفاجئ زوجته متلبسة بالزنى. ففي هذه الحالة لا يباح للزوج قتل زوجته       و شريكها و إنما يخفف عليه القانون العقوبة فقط.

       و على ذلك فإن القتل حتى في هذه الحالة يظل جريمة معاقبا عليها. فإذا قتلت الزوجة زوجها أو قتله الشريك قبل أن يتمكن هو من قتلها عد كلاهما في حالة الدفاع شرعي لأنهما كانا مهددين بفعل يعتبر جريمة في نظر القانون. و لكن إذا كان الإعتداء على النفس أو المال لا يعتبر جريمة لسبب من أسباب أباحة فلا يصح أن يعتبر المعتدى عليه أو على ماله في حالة دفاع شرعي.

       و الأصل أن يكون الإعتداء الذي يبيح الدفاع الشرعي حقيقا. فلا يكفي لتبرير الدفاع مجرد التوهم و الظن بإحتمال وقوع إعتداء. و مع ذلك إذا ثبت أن شخص كان في ظروف تجعله يعتقد بوجود خطر على نفسه و ماله أو على نفس غيره أو ماله فإنه يعتبر في حالة دفاع شرعي بشرط أن يكون إعتقاده مبنيا على أسباب معقولة.

       و يكون تقدير ذلك بحسب شخصية المعتدى عليه و مقدار التأثر الذي حدث له من الفعل في الظروف التي وقع فيها مع عدم وجود الوقت الكافي للتروى و يجب على القاضي في مثل هذه الحالة أن يضع نفسه موضع المدافع. و تتشدد المحاكم كثيرا في هذا التقدير.

       فمثلا إذا أحس حارس الزراعة ليلا بحركة غير عادية في المكان الذي يقوم فيه بالحراسة و كان يشاع في إنحاء القرية إن هذا المكان مسكون بالجان. و رأى شبحا أسودا قادما عليه. و هو من البسطاء الذين يعتقدون بهذه الخرافات. فنادى على ذلك الشبح فلم يجبه و إستمر يقترب منه فأطلق عليه عيارا ناريا إعتقادا منه أنه عفريت.
       فإذا به أحد أقاربه جاء يمزح معه. فإن مثل هذا الحارس يعتبر في حالة دفاع شرعي.
       و بالمثل أيضا إذا فاجأ المتهم المجني عليه وقد دخل في زراعته بالقوة       و معه ماشيته و تركها ترعى في الزرع القائم فضربه المتهم ليرده عن ماله فأحدث به عاهة فإنه يعتبر في هذه الحالة في حالة دفاع شرعي.

       و لكن هل يمكن أن يصير المعتدى في حالة دفاع شرعي؟ و بمعنى واضح إذا وجد المعتدى نفسه مهددا من الشخص المعتدى عليه. هل يجيز له أن يستعمل ضده حق الدفاع الشرعي ؟ الجواب على ذلك أنه إذا كان المعتدى عليه في حالة دفاع شرعي ولم يتجاوز حدود هذا الحق بأن كانت القوة التي إستعملها لا تزيد على ما يلزم لرد الإعتداء.

       فلا يصير المعتدى في حالة دفاع شرعي لأن فعل المعتدى عليه مشروع فإذا دخل شخص في منتصف الليل منزل شخص آخر بوجه غير قانوني بواسطة التسلق و كان حاملا سلاحا ثم بقي في المنزل مختفيا عن أعين من لهم الحق في إخراجه لا شك أن صاحب المنزل يكون في هذه الظروف في موقف يبيح له الدفاع الشرعي عن نفسه و عن ماله إذا هو إستعمل حقه هذا ضد هذا الشخص، و لا يجوز لهذا الأخير إذا رد الإعتداء على صاحب المنزل أن يحتج بأنه إنما كان يدافع عن نفسه.

       أما إذا تجاوز المعتدى عليه حدود حق الدفاع الشرعي فإن فعله يصبح غير جائز و يعد جريمة و بذلك يصبح من بدأ بالإعتداء في موقف يبيح له حق الدفاع الشرعي لأنه يدفع عن نفسه فعلا يعده القانون جريمة.

       فإذا ضرب زيد عمرو بعصا فأستل هذا الأخير سكينا و هجم به على زيد يريد طعنه بها. فعاجله زيد برصاصة من مسدسه فإن زيدا يعتبر في هذا الوقف في حالة دفاع شرعي و إن كان هو الذي بدأ بالإعتداء. ما الحكم إذا كان الفعل الذي يشكل الإعتداء صادرا من موظف؟ يجب في هذه الحالة التفرقة بين أمرين. أ) أما أن يكون العمل الذي حدث من الموظف قياما بواجب يفرضه القانون: و في هذه الحالة يعتبر فعلا مباحا لا إعتداء يخول حق الدفاع الشرعي كرجل الشرطة الذي يوقف على شخص في الأحوال الجائز فيها الإيقاف أو يفتش منزلا إنتدب لتفتيشه فهذه و ما شاكلها تعتبر من الأعمال القانونية التي أمر بها القانون ولا تبرر حق إستعمال الدفاع الشرعي ب) و إما أن يتخطى الموظف حدود سلطته و إختصاص وظيفته: كرجل الضبط القضائي الذي يدخل منزل شخص ليلا بدون إجراءات رسمية وفي غير الحالات التي حددها القانون فإن عمله يعد جريمة تبرر لصاحب المنزل إستعمال حق الدفاع الشرعي ضده.

       ثانيا: يجب أن يكون الخطر حالا: و هذا هو الشرط الثاني لقيام حالة الدفاع الشرعي و معناه أن يكون الخطر على وشك الوقوع بالمعتدى عليه لأن حالة الخطر الذي يوجد فيها هي التي تبرر الدفاع. فإذا لم يكن الخطر حالا. بل كان مستقبلا كمن يهدد شخص بالقتل في المستقبل إذا لم يقم له بعمل ما. فإن ذلك لا يجعل المهدد في حالة دفاع شرعي إذ يجوز له أن يتفادى هذا الخطر بالإلتجاء إلى رجال السلطة العامة لحمايته.

       كذلك لا يكون المجني عليه في حالة دفاع بعد زوال الإعتداء إذ أنه بإنتهاء الإعتداء ينتهي الخطر و يزول المبرر لإباحة حق الدفاع الشرعي، و هو منع وقوع المعتدي لا القصاص و الإنتقام فمثلا لا يعتبر في حالة دفاع شرعي عن النفس الشخص الذي ينتزع آلة الضرب من يد شخص أراد الإعتداء بها عليه و يضربه بها. و كذلك الشخص الذي يرى آخر قد وضع النار في منزله ولاذ بالفرار فلا يجوز له إطلاق النار عليه بحجة الدفاع الشرعي عن نفسه أو ماله لأن الإعتداء قد إنتهى بتحقيق النتيجة الإجرامية التي أرادها المعتدى ولم يعد هناك إعتداء يجوز له دفعه بإستعمال حق الدفاع الشرعي.

       و هكذا و الحكمة من عدم إباحة الدفاع الشرعي في مثل هاتين الحالتين و ما شاكلها أنه لا مسوغ لإستعماله مادام الإعتداء قد إنتهى.

       و لكن متى يقول بأن الإعتداء قد إنتهى فعلا و بأن المعتدى عليه لم يعد في موقف يبيح له الدفاع الشرعي؟ الواقع أن تحديد هذا الوقت يختلف بإختلاف الجرائم. ففي جريمة الحريق العمدي مثلا تنتهي حالة الدفاع الشرعي بوضع الجاني النار فعلا في الأماكن المراد إحراقها، بمعنى أنه متى وضع النار أو صب البترول و أشعل الثقاب لا يجوز بعد ذلك إطلاق النار عليه بحجة الدفاع الشرعي عن النفس أو المال.

       و لكن يجوز ذلك مثلا عندما يضبط و هو يصب الغاز أو يهم بإشعال الثقاب. و ذلك لمنعه من إتمام الجريمة و كذلك في جريمة السرقة لا ينتهي الإعتداء إلا إذا إستولى السارق على الشيء إستيلاء يخرجه من قبضة صاحبه و يجعله في حيازة السارق نهائيا.

       و بمعنى أوضح لا تنتهي حالة السرقة التي تبيح الدفاع الشرعي إلا بهروب السارق بالمسروقات. أما إذا كان في دور الهروب و هو يحمل المسروقات فإنه يجوز إستعمال حق الدفاع الشرعي ضده فالشخص الذي يقتل لصا سطا عليه مع آخرين ليسرق مواشيه بالإكراه بعد أن أخذ في الهروب بالماشية لا عقاب لأنه في حالة دفاع شرعي عن النفس و المال.

       ثالثا: يجب أن يكون الإعتداء مما لا يمكن دفعه بأية طريقة أخرى: أعني أن تكون القوة التي إستعملها المعتدي هي السبيل الوحيد لدرء الخطر الذي يهدد النفس أو المال و يجب في هذه الحالة مراعاة حالة المعتدى عليه المعنوية وقت الإعتداء. ولا يصح أن يتطلب منه حسن تقدير الشخص الهادئ الذي لا يساوره خوف أو يهدده خطر أما إذا كان من الممكن الركون إلى الإحتماء برجال السلطة فلا يكون ثمة وجود لحق الدفاع الشرعي إلا أن ذلك يقتضى أن يكون لدى المتهم من الوقت ما يكفي لإتخاذه هذا الإجراء حتى لا يكون من مقتضى المطالبة به تعطيل للحق المقرر في القانون مادامت جميع أحوال الدفاع الشرعي عن المال يتصور فيها كلها ترك المعتدى ينفذ عدوانه حتى يستعان عليه برجال الحكومة. و لكن هل للمعتدى عليه أن يلجأ إلى الهرب بدلا أن يلجأ إلى القوة لدفع التعدي ؟ الرأي الراجح أن له أن يستعمل حقه في الدفاع بدلا من الهرب إذا كان في الهرب معرة أما إذا لم يكن مزريا بالشخص كما لو كان المهاجم مجنونا أو والد للمهاجم فعند ذلك يتعين عليه الهرب إذا كان ذلك في مقدوره ولا خطر عليه فيه.

       رابعا: يجب أن لا يلتجأ إلى إستعمال القوة اللازمة لدفع التعدي و عدم تجاوزها و ما زاد على ذلك يعتبر إعتداء لا مسوغ: و بمعنى أوضح يجب أن تكون الأفعال التي ترتكب للدفاع متناسبة مع أفعال التعدي، فمثلا إذا أراد شخص الإعتداء على آخر بالضرب فلا يجوز للمعتدى عليه أن يدفع هذا الإعتداء إلا بإعتداء يماثله أو يقاربه كأن يضربه أو يوقعه على الأرض، و لكن لا يجوز له أن يجرد عليه سلاحا و يقتله. و المسألة على كل حال متروكة لتقدير القاضي يراعي فيها حالة كل من المعتدي و المعتدي عليه.

       و قد حكم بأنه إذا كان شخص يحمل بندقية معدة لإطلاق النار فلا يمكن أن يعتبر مهددا بخطر داهم يخول له حق الدفاع الشرعي بالقتل ضد شخص آخر يتعقبه لا يحمل سوى عصا فالمهم إذن أن يكون هناك تناسب بين التعدي و بين الفعل الذي يرتكبه لدفعه بمعنى أنه إذا كان هذا التعدي جسيما جاز رفعه بفعل جسيم قد يصل أحيانا إلى قتل المعتدي.

       و من الأحوال التي يجوز فيها الدفاع الشرعي ولو بالإلتجاء إلى القتل دفاعا عن النفس حالة ما إذا كان هناك إعتداء يتخوف أن يؤدي إلى الموت أو جراح بالغة و كان لهذا التخوف أسباب معقولة كما سبقت الإشارة إلى ذلك. و أيضا حالة الإغتصاب أو هتك العرض بالقوة و حالة إختطاف إنسان. و من الأحوال التي يجوز فيها الإلتجاء إلى القتل دفاعا عن المال حالة الحريق العمدي و السرقات المعدودة من الجنايات و الدخول ليلا في منزل مسكون أو في أحد ملحقاته حتى ولو ثبت فيما بعد أن الداخل كان يقصد إرتكاب جريمة. و ذلك لصعوبة إلتحقق من قصده وقتئذ   و ما إلى ذلك و هناك حالة أخرى من الحالات التي يجيز إستعمال حق الدفاع الشرعي نص عليها القانون في المادة 40 في فقرتين متتاليتين و هما:

       أ)- القتل أو الجرح أو الضرب الذي يرتكب لدفع إعتداء على حياة شخص أو سلامة جسمه أو لمنع تسلق الحواجز و الحيطان أو مداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو توابعها أو كسر شيء منها أثناء الليل. فأما عن الإعتداء على حياة الشخص أو سلامة جسمه فهو يجيز إستعمال حق الدفاع الشرعي سواء كان ذلك ليلا أو نهارا و أما منع دخول الأماكن المسكونة و توابعها مثل غرفة الخدم و غرفة البواب. و ما إليها فالمهم في هذه الحالة أن يكون المنزل مسكونا حتى ولو كان سكانه في الخارج وقت الإعتداء فإنه يجوز في هذه الحالة للحارس أو للجيران دفع الإعتداء في غيبة الساكن و يجب أيضا أن يقع هذا الإعتداء ليلا، و الليل هو الفترة التي يسود فيها الظلام فيما بين غروب الشمس و شروقها.

       ب)- الفعل الذي يرتكب للدفاع عن النفس أو عن الغير ضد مرتكبي السرقات أو النهب بالقوة.

       و في هذه الحالة تقوم حالة الدفاع الشرعي في أية لحظة هي تعرض الشخص للإعتداء عليه بقصد السرقة أو النهب بإستعمال القوة و لعل الحكم في ذلك هو الضرب على ايدي عصابات السطو المسلحة و قطاع الطرق الذين يهاجمون المسافرين في الطريق العامة.

- تجاوز حد الدفاع الشرعي: قدمنا فيما سبق أن توافر حالات الدفاع الشرعي من شأنه أن يمحو صفة الجريمة عن الفعل بحيث يصبح فعلا مباحا لا يسأل عنه المدافع لا جنائيا ولا مدنيا.

و قلنا أنه لابد لتوافر هذه الحالة لإعتبار عمل المدافع مباحا أن يكون الفعل الذي دربه الإعتداء عن نفسه أو عن ماله يتناسب مع فعل الإعتداء الذي وقع عليه.

و لكن ما الحكم إذا كان الفعل الذي إرتكبه المدافع غير متناسب مع فعل المعتدى كما لو إعتدى شخص على آخر بالضرب بعصا فأستل المعتدى عليه سكينا و طعن به المعتدي في صدره فقتله؟.

في هذه الحالة و ما شاكلها يكون المعتدى عليه قد تجاوز حد الدفاع الشرعي فهل يظل رغم ذلك غير مسؤول أم إنه يسأل مسؤولية مخففة؟ إختلفت في ذلك التشريعات الجنائية.

فمنها من لم يضع نصا لتنظيم هذه الحالة كقانون العقوبات الفرنسي و منها من نص على تنظيمها مثل قانون العقوبات المصري حيث نص في المادة 251 منه على إعتبار تجاوز حد الدفاع الشرعي جنحة في جميع الأحوال يعاقب عليها بالحبس لمدة من أربعة و عشرين ساعة إلى ثلاثة سنوات أما المشرع الجزائري فهو بدوره لم يضع نصا لتنظيم حالة تجاوز حد الدفاع الشرعي و لكنه عند النص على الأعذار القانونية التي من شأنها تخفيف العقوبة عن الجاني أورد نوعين من الأعذار في المادتين 277 و 278 أساسهما كما سنرى فيما بعد تجاوز حد الدفاع الشرعي.

و قبل أن نتطرق إلى الكلام عن هاتين المادتين: يتعين ولابد أن نقرر أنه يجب لقيام حالة تجاوز حد الدفاع الشرعي من توافر شرطين أساسيين:

أولا: أن ينشأ للمدافع حق الدفاع الشرعي عن نفسه أو عن ماله. لأنه لا يصح القول يتجاوز الحق إلا مع قيام الحق ذاته بمعنى أنه لا يصح إعتبار المتهم متجاوزا حق الدفاع الشرعي إلا إذا كان قبل التجاوز في حالة دفاع شرعي عن النفس أو المال. فإذا بادر المتهم إلى إطلاق النار على المجني عليه عندما رآه بين الأشجار دون أن يكون قد وقع منه فعل إيجابي يخشى منه المتهم وقوع جريمة من الجرائم التي يجوز فيها الدفاع الشرعي فإنه لا يكون في هذه الحالة في حالة دفاع شرعي.

ثانيا: يجب أن يكون تجاوز حد الدفاع الشرعي بحسن نية من جانب المدافع: أعني أن يكون التجاوز في الدفاع ناشئا عن خطأ في التقدير لا متعمدا ولا مقصودا بذاته كما لو حاول شخص ضرب آخر بعصا فأراد المعتدى عليه رد الإعتداء بعصا أخرى و كان يقصد ضرب المعتدى بها على يده و لكنه أخطأ       و أصابه في رأسه فمات فالمحكمة في هذه الحالة يجب عليها أن تعتبره قد تجاوز حدود الدفاع الشرعي.

أما إذا كان تجاوز الدفاع الشرعي بسوء نية و بقصد الإنتقام فإن المتهم يسأل عن هذا التجاوز مسؤولية كاملة. كما لو إنتهز شخص فرصة إعتداء خصم له بالضرب عليه فأستل سكينا و أخذ يطعنه بها حتى أجهز عليه. ففي هذه الحالة يسأل المتهم عن القتل العمد ولا يطبق عليه عذر تجاوز الدفاع الشرعي.

و إذا كان تجاوز المدافع حدود الدفاع الشرعي ناشئا عن خطأ غير متعمد كما لو كان المعتدى عليه يقصد توجيه قوته لرد الإعتداء فيصيب بفعله شخصا غير المتعدى فإنه يكون مسؤولا في هذه الحالة مسؤولية كاملة و لكن عن جريمة غير عمدية هي جريمة القتل الخطأ.

و أخيرا فإن تقدير تجاوز المدافع حقه في الدفاع الشرعي أو عدم تجاوزه متروكا لتقدير القاضي. وقد يعتبر مجرد عدم تناسب فعل الدفاع مع فعل الإعتداء قرينة على سوء النية هذان هما الشرطان الواجب توافرهما لقيام حالة تجاوز حق الدفاع الشرعي وقد سبق أن ذكرنا أن قانون العقوبات الجزائري لم يأت بنص ينظم حالة تجاوز حق الدفاع الشرعي و أن كان قد أورد ضمن نصوصه المادتين 277   و 248 متضمنين بعض حالات تعتبر من حالات تجاوز حد الدفاع الشرعي        و إعتبرها من الأعذار التي يترتب عليها تخفيف العقوبة فنص في المادة 277 على ما يلي: يستفيد مرتكب جرائم القتل و الجرح و الضرب من الأعذار إذا دفعه إلى إرتكابها وقوع ضرب شديد من أحد الأشخاص.

و نص في المادة 278 على أنه: يستفيد مرتكب القتل و الجرح و الضرب من الأعذار إذا إرتكبها لدفع تسلق أو ثقب أسوار أو حيطان أو تحطيم مداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو ملحقاتها إذا حدث ذلك أثناء النهار.

و إذا حدث ذلك أثناء الليل فتطبق أحكام الفقرة الأولى من المادة 40.

و واضح من نص هاتين المادتين أن المشرع الجزائري قد نظم بهما حالتين هما في الواقع من حالات تجاوز حد الدفاع الشرعي و هما:

أولا: حالة الشخص الذي يتعرض لضرب شديد من آخر: فهو إما أن يدفع الإعتداء عليه بالضرب بإعتداء آخر يتناسب مع فعل المعتدى و في هذه الحالة يعتبر في حالة دفاع شرعي و إما أن يرتكب في سبيل دفع ذلك الإعتداء جريمة قتل      أو جرح و في هذه الحالة يكون فعل الدفاع غير متناسب مع فعل الإعتداء و يكون المدافع قد تجاوز حد الدفاع الشرعي. و لذا فإن القانون يعتبره معذورا و يعاقبه بعقوبة مخففة وقد يشترك مع المدافع في رد الإعتداء شخص آخر فيكون حكمه حكم المدافع تماما، فيعفى من العقاب في الحالة الأولى و يعاقب بعقوبة مخففة في الحالة الثانية و هذا هو ما يهدف إليه نص المادة 277.

ثانيا: حالة من يرتكب جرائم القتل و الجرح و الضرب لدفع تسلق أو ثقب أسوار أو حيطان أو تحطيم مداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو ملحقاتها إذا حدث ذلك أثناء النهار وقد قدمنا فيما سبق أنه إذا إرتكب هذه الأفعال ليلا فإنها تبرر إستعمال حق الدفاع الشرعي ضد مرتكبها و يعفى المدافع نهائيا من العقاب و لعل المحكمة في ذلك أنه أثناء الليل ينتشر الظلام و يسود الهدوء و يأوي الناس إلى مساكنهم و بذلك يكون من العسير جدا على المدافع أن يستعين بأحد أو يلجأ إلى وسيلة أخرى سريعة لدفع الإعتداء.

أما في أثناء النهار. فإنه يكون من السهل على المدافع المعتدى عليه أن يستغيث بالمادة أو يستعين برجال الشرطة أو الجيران أو ما إلى ذلك. و لهذا فإن المشرع إعتبره معذورا و خفف عليه العقاب فقط.

و قد نصت المادة 283 على أنه إذا ثبت قيام العذر كما في الحالتين السابقتين فإنه إذا كانت عقوبة الجريمة التي إرتكبها المدافع هي الإعدام أو السجن المؤبد تخفف إلى الحبس من ستة أشهر إلى خمس سنوات و إذا تعلق الأمر بجناية أخرى تخفض العقوبة إلى الحبس من ستة أشهر إلى سنتين.

أما إذا تعلق الأمر بجنحة فتكون العقوبة في حالة قيام العذر هي الحبس من شهر إلى ثلاثة أشهر.