نشأة قانون العقوبات و تطوره بصفة عامة

دروس في الجنائي العام

مدخل: ( نشأة قانون العقوبات و تطوره بصفة عامة).

لم ينشأ قانون العقوبات في أية دولة من الدول و وصل إلى الحالة التي هو عليها الآن طفرة واحدة بل كان ذلك نتيجة تطور واسع النطاق يختلف بإختلاف الأحوال الإجتماعية في كل دولة على حدى و ينحصر هذا التطور في أربعة أدوار أو عصور تكاد تكون متداخلة بعضها في بعض و سنتكلم عن كل منها بإيجاز تام.

أولا: عصر الإنتقام الشخصي: و هو العصر الذي كان الإنسان فيه على حالة البداوة ولم تكن هناك حكومة أو سلطة تتولى تصريف الأمور. بل كان المجتمع مكونا من جملة قبائل يرأس كل واحدة منها شيخ القبيلة. و كانت شخصية الفرد مندمجة في شخصية القبيلة بحيث إذا إعتدى فرد من قبيلة على فرد آخر من قبيلة أخرى فإن هذا الإعتداء يعتبر واقعا على القبيلة بأسرها. و بذلك كانت حياة هذه القبائل عبارة عن سلسلة نزاعات و حروب. و كان الحق للقوة كما كان الإنتقام للمعتدى عليه أمرا مقدسا لدرجة أنهم كانوا يعتقدون إعتقادا راسخا بأن روح الميت تظل منزعجة في قبره حتى يثأر له فتهدأ. أما علاقة أفراد القبيلة بعضهم ببعض فكان ينظمها شيخ القبيلة بماله من سلطة نافذة. و كان يحكم بين المتنازعين من أفراد القبيلة بما تقضي به عاداتهم أو بما يفتي به كبار رؤساء القبيلة و بعد ذلك بدأت هذه القبائل تندمج بعضها في بعض طوعا أو كرها حتى تكون من مجموعها ما يسمى بالدولة. و ما أن نشأت الدولة حتى أخذت تضيق من نطاق حق الإنتقام الشخصي شيئا فشيئا إلى أن إنتزعته من يد المجني عليه و إستقلت هي بمعاقبة الجاني.

ثانيا: عصر الإنتقام للدولة و المجتمع: بعد أن إنقضى عصر الإنتقام الشخصي و قامت الدولة تطورت فكرة العقوبة تطورا جديدا فصارت توقع على المجرمين بفكرة الإنتقام للمجتمع و الآلهة. و كانت العقيدة الدينية الراسخة و قتئذن في الأذهان تسيطر على حق العقاب. و كانوا ينظرون إلى المجرم كعدو للهيئة الإجتماعية و أنه بجريمته قد أغضب الآلهة و المجتمع فيجب الإنتقام منه مرضاة لهم و تكفيرا عن خطيئته بتوقيع عقوبات قاسية كالشنق و قطع الرأس و الإلقاء من مكان مرتفع و ما إلى ذلك من طرق التنكيل بالمجرم.

و كانت الدعوى الجنائية تقام على الأحياء و الأموات على حد سواء فكانوا يحاكمون جثث الموتى و يمثلون بها أفظع تمثيل كما كانوا يحاكمون الحيوانات      و الجمادات. و لم تكن العقوبة شخصية توقع على المتهم وحده بل على عائلته       و أقاربه و أنصاره.

ثالثا " عصر الرحمة و الإصلاح: لم يكد يبدأ القرن الثالث عشر حتى بدأت معه حركة إصلاح واسعة النطاق ترمي إلى القضاء على مساوئ العهد الماضي    و كانت الكنيسة أول من حمل لواء هذه الحركة فأخذت تبث مبادئها و تعاليمها بين الناس و تأمر بالتآخي و الشفقة، و ظهرت هذه المبادئ واضحة جليا في أحكام محاكمها التي كانت تقوم بجانب محاكم السلطة الزمنية.

كذلك كان لآراء الكتاب و الفلاسفة في هذا العصر الفضل الأكبر في تفويض دعائم تلك المبادئ و الأفكار العتيقة فقام هؤلاء الكتاب على رأسهم مونتسكيو و جان جاك روسو و فوليتر، هؤلاء تناولوا العقوبات الجنائية القائمة بالنقد و أخرجوا إلى حيز الوجود فكرة جديدة هي أن الغاية من العقاب ليست مجرد الإنتقام من المجرم بل الدفاع عن الصالح العام من جهة و إصلاح المجرم و تهذيبه من جهة أخرى.

و كان لمونتسكيو و كتابه (روح القوانين) له تأثيرا عظيما في حركة الإصلاح الإجتماعي. فقد حمل حملة صادقة على العقوبات القاسية قائلا بأن الفائدة التي ترجى من العقوبة لا تتوقف على قسوتها بقدر ما تتوقف على إلقاء الرعب في قلب المجرم و إشعاره بأنه لن يفلت من توقيع العقاب عليه إذا هو عمد إلى إرتكاب الجريمة. و أفكار جان جاك روسو و مؤداها أن أفراد المجتمع قد تعاقدوا فيما بينهم على أن يتنازل كل واحد منهم عن جزء من حريته إلى هيئة المجتمع في سبيل مصلحة المجموع و فيه تندمج مصلحته الخاصة.

أما فولتير فكان من رأيه أن الغاية من العقاب ليست الإنتقام من المجرم بل الدفاع عن الصالح العام. و بعد ذلك ظهر في إيطاليا العالم الشهير بيكاريا فأخرج كتابا عن الجرائم و العقوبات.

هاجم فيه طرق التحقيق و تعذيب المتهمين و أيد آراء مونتسكيو و جان جاك روسو و تبعه الفيلسوف الإنكليزي بنتام الذي وضع قاعدته المعروفة: و هي أن العقوبة يجب أن لا تكون أكثر مما تستدعيه الضرورة ولا أكثر مما تسمح به العدالة، و خلاصة ما تقدم أنه كان من تأثير هذه الأراء أن تقوضت التشريعات الجنائية القديمة بما فيها من عسف و إرهاق و أدخلت عليها تعديلات عديدة في سائر الدول.
                              
رابعا: العصر العلمي: و قد إمتاز هذا العصر بكثرة ما ظهر من نظريات علمية ترمي في مجموعها إلى إصلاح التشريع الجنائي و القضاء على ما فيه من نقائص و عيوب و أهم هذه النظريات.

1 النظرية التقليدية: يرى فريق من أنصار هذه النظرية أن حق العقاب يجب أن يبني على العدالة المطلقة، أي تحقيق العدالة في المجتمع بمعنى أن يكون العقاب هو الجزاء لكل جريمة مهما كانت ظروف الجاني و دوافعه و بيئته ووسطه. و أما الفريق الآخر فيرى أن المجتمع يجب أن لا يعاقب إلا إذا كان ذلك ضروريا   و نافعا لوجوده. و بمعنى آخر يجب أن تهدف العقوبة إلى الحيلولة دون وقوع الجرائم و إتخاذ التدابير التي من شأنها وقاية المجتمع من الجريمة قبل وقوعها.    و من أنصار هذه النظرية بنتام على نحو ما سبقت الإشارة إليه وقد أخذ بها المشرع الفرنسي في مجموعه عام 1810 فعمد إلى تشديد العقاب إلى درجة أثارت السخط   و الإستنكار.

و لذلك ظهر إتجاه حديث في النظرية التقليدية يهدف إلى حصر العقوبة في النطاق الذي تجتمع فيه العدالة و المصلحة. و بذلك جمع فلاسفة هذه المدرسة بين فكرة العدالة المطلقة و فكرة المنفعة الإجتماعية التي كان رجال المدرسة التقليدية القديمة ينادون بها.
2 المذهب الوضعي: و يتلخص هذا المذهب في أن الجريمة ليست حادثا عرضيا يأتي بمجرد إختيار الإنسان كما يدعي ذلك أنصار المذهب القديم و إنما هي نتيجة لعوامل مختلفة أثرت على تكوين عقلية المجرم و نفسيته حتى دفعته إلى الإقدام عليها. فكي نعالج الإجرام علاجا شافيا لا يكفي أن ننظر إلى النتيجة         و نتخذها مقياسا للمسؤولية و ترتيب العقاب على حسب جسامتها بل يجب أن نبحث الداء من أساسه و أن نبحث عن العوامل التي تبعث على الإجرام فنعالجها، و بذلك نقضي على الداء قبل أن يتجسم لا أن ننتظر حتى يطفح المرض فيصبح العلاج عسيرا.

إلا أن أنصار هذا المذهب رغم إتفاقهم على الفكرة الأساسية قد إختلفوا على تكييف العامل الأساسي للإجرام. هل هو عامل شخصي في لحم المجرم و دمه ؟ أم هو عامل الوسط الذي عاش فيه ؟ أم هي العوامل الطبيعية ؟ لذلك نجدهم منقسمين إلى عدة نظريات أهمها:

النظرية الإيطالية: و أهم أنصارها لمبروزو و فيري و جاروفلو، و يرى أصحاب هذه النظرية أن المجرم إنما ينساق إلى الإجرام بإستعداد طبيعي في نفسه منذ ولادته فكما يولد الإنسان و عنده إستعداد طبيعي لفن من الفنون، كذلك يولد المجرم و عنده إستعداد طبيعي للإجرام. أما العوامل الخارجية التي تحيط به فهي    و إن كانت تساعده على الإنحدار نحو الجريمة إلا أنها لا يمكن أن تؤدي به إلى الإجرام ما لم يكن عنده هذا الإستعداد الطبيعي.

و ينقسم المجرم بحسب هذه النظرية إلى خمسة أقسام:1)- المجرم بطبيعته.2)- المجرم المجنون.3)- المجرم بالعادة.4)- المجرم بالعاطفة.    5)- المجرم بالصدفة.

أولا: المجرم بطبيعته: يرى لمبروزو أن هذا المجرم يمتاز بظهور ميله للإجرام مبكرا أي فهو صغير السن. فلا يبدأ بإرتكاب الجرائم البسيطة ثم يتدرج منها إلى الجرائم الخطيرة كما هو الحال بالنسبة للمجرمين الآخرين بل يقدم على الجرائم الجسيمة من أول الأمر كالقتل و ما شابهه.
و يختلف هذا المجرم أيضا عن سائر الناس من حيث تكوين جسمه و تركيب عقله وله علامات خاصة مميزة فيكون عادة قصير القامة صغير الجبهة ناتئ عظام الخدين دقيق الشفة، غائر العينين، غزير الشعر الرأس، أذناه تشبه أذني السلة، حاد النظر، ضعيف الإحساس، مولعا بالوشم و المغامرة و شرب الخمر.

ثانيا: المجرم المجنون: و يندفع إلى الإجرام لإختلال في قواه العقلية، و هو ليس إلا نوعا متطرفا من المجرمين بالطبيعة.

ثالثا: المجرم بالعادة: و هو المجرم الذي يتكرر منه وقوع الجرائم حتى أصبح الإجرام لديه غريزة ثابتة بحكم هذا التكرار و أغلب المجرمين من هذا النوع يرتكبون جرائمهم ضد المال و يتخذون الإجرام وسيلة للتعيش ناظرين إليه كما ينظر الصانع إلى صناعته، أما العقوبة فليست في نظرهم إلا خطرا من أخطار المهنة فكما يحتمل أن يصاب العامل أو الصانع أثناء أداء عمله كذلك يجوز أن يضبط المجرم منهم أثناء إرتكاب جريمته و يزج به في السجن. و يبدأ هؤلاء عادة بالإجرام منذ حداثتهم تحت تأثير عوامل إجتماعية سيئة كالبيئة الفاسدة و الفقر       و أخلاط السوء و غير ذلك.

رابعا: المجرم بالعاطفة: هذا الشخص لا تبدو عليه حسية المجرمين فهو شخص وديع الأخلاق في حياته العادية و لكنه دموي المزاج أو عصبي سريع التأثير و يرتكب جريمته تحت تأثير عوامل نفسانية و بخاصة القتل و يكثر هذا النوع من المجرمين في البلاد الأوروبية و خصوصا بالنسبة للجرائم التي منشؤها العلاقات الغرامية أو الزوجية، و المجرم من هذا النوع بعد أن يرتكب الجريمة يعود إلى صوابه فيتأثر تأثيرا شديدا لما فرط منه يشتد عليه التأثير في بعض الأحيان فينتحر.

خامسا: المجرم بالصدفة: إستعداده للإجرام ضعيف جدا و يرتكب جريمته في غالب الأحيان مدفوعا بالظروف المحيطة به كالفقر مثلا: و قد يتكرر منه إرتكاب الجرائم فيصبح مجرما بالعادة.

طرق العلاج: يرى أنصار هذه النظرية أن المجرم بطبيعته لإرجاء في إصلاحه فيجب أن تعد ظروف حياته في مكان منعزل إن كانت جريمته بسيطة     و ذلك ليتقي المجتمع شروره. أما إن كانت (جريمته) جسيمة فيتحتم إعدامه. و أما المجرم المجنون فهو شخص مريض يجب أن يعزل في مصلحة خاصة لعلاجه،     و المجرم بالعادة يعامل معاملة المجرم بطبيعته مع فارق بسيط بينهما هو أنه بينما يرسل المجرم بطبيعته إلى معزل أو يعدم إذا ما أجرم لأول مرة، فإن المجرم بالعادة لا يعامل هكذا إلا بعد أن تتكرر جرائمه. و أما المجرم بالعاطفة فكيفيه ما يلحق به من الندم و ما يدفعه من تعويضات على أنه إذا دعا الأمر يمكن إبعاده عن محل إقامته أو الحكم عليه بحكم تهديدي يوقف تنفيذه ولا ينفذ إلا إذا عاد إلى الإجرام      و أخيرا بالنسبة للمجرم بالصدفة فالأمر يحتاج إلى تفصيل فإن كان صغيرا سلم لذويه أو عهد بتربيته إلى عائلة طيبة فـإذا كان الجرم الذي إرتكبه خطيرا يوضع في إصلاحية خاصة ذات نظام يلائمه أما إذا كان المجرم كبيرا و كانت جريمته بسيطة فيكتفي فقط بالتعويض المدني. و إن كانت جسيمة يرسل إلى مزرعة خاصة يعمل بها تحت نظام أقل شدة من النظام المتبع مع المجرم بالعادة و يجب على كل حال عدم الإلتجاء إلى حبسه مدة قصيرة حتى لا يختلط بالمجرمين المحترفين فتفسد أخلاقه و تتسمم أفكاره و يهون السجن في نظره. و إلى جانب هذه العقوبات أو الوسائل بتعبير أدق التي إقترحها أنصار النظرية الإيطالية أوصووا أيضا بالتذرع بوسائل أخرى وقائية لمقاومة الأسباب الإجتماعية المختلفة التي تمهد للإجرام         و تهيء له جوا صالحا فقالوا بوجوب مقاومة المسكرات و المخدرات أو التشرد    و البغاء و العناية بالأحداث و مكافحة البطالة و تخفيف وطأة الأزمات الإقتصادية   و من هذا القبيل أيضا منع زواج المرضى بأمراض خبيثة و تعقيم المجرمين كما هو متبع الآن في بعض الدول.

و يرى دعاة هذا المذهب أن القضاة الذين يوكل إليهم الفصل في المسائل الجزائية يجب أن يكونوا مثقفين ثقافة جزائية خاصة و أن يكونوا أخصائيين في المسائل الطبية.

هذه هي النظرية الإيطالية في مجمل مبادئها و هي كما نرى ترمي إلى قلب النظام الجزائي رأسا على عقب و متقويض الأسس التي إستوى عليها في سائر الدول منذ القدم. فهي تنكر أساس المسؤولية القائمة على إختيار المرء و حريته      و تتناسى جانب العدالة في توقيع الجزاء، غير مهمته إلا بالدفاع عن صالح المجتمع ولو كان في ذلك تعرضا لحريات الأفراد. و هي لا تعتني كذلك بالجانب المادي للجريمة و إنما بالجانب الشخصي قبل كل شيء، أعني أنها تهتم بالمجرم ذاته لا بالجريمة ذاتها. فلا عبرة في نظرها بالظروف المادية المشددة للجريمة و تعدد الجرائم و ما إلى ذلك من الأبحاث المتعلقة بالأفعال المكونة للجريمة و إنما العبرة بالمجرم نفسه و قوة الشر و الخطورة الكامنة في شخصه. و تبعا لذلك نرى هذه النظرية أنها تخرج على التقسيم الثلاثي للجرائم إلى جنايات و جنح و مخالفات.     و تستبدل بها إصلاحيات و مزارع يوزع عليها المجرمون و حسب أنواعها. كذلك نراها أيضا تهدم مبدأ هاما من مبادئ الإصلاح التي جاءت بها الثورة الفرنسية      و هو مبدأ الفصل بين السلطات إذ تعهد بتحديد الجزاء إلى السلطة التنفيذية بينما أن ذلك من أخص وظائف السلطة القضائية.

نقد النظرية الإيطالية: لاشك في أنه كان للمذهب الوضعي و بخاصة النظرية الإيطالية حظا كبيرا من الصواب في كثير من النواحي و إليها يرجع الفضل في إصلاح النظم الجنائية و الإجرام و تقصي أسباب الإجرام و إصلاح نظام السجون   و مقاومة العوامل الإجتماعية التي تؤدي إلى إرتكاب الجرائم. غير أنه يعاب على هذه النظرية أنها بالغت في الإهتمام بالجانب الشخصي للجريمة لدرجة أهملت معها الجانب المادي إهمالا تاما فلم تقم أي وزن لجسامة الجرم في ذاته و خطره في أعين الناس. كما أنها أخطأت في تشبيه المجرم بالمريض الذي يجب علاجه مع وجود الفارق بينهما فالمريض لا يصاب بالمرض إختيارا بعكس المجرم فإنه يريد الجريمة و يسعى إليها فضلا عن أن المرض أمر عرضى يقتصر ضرره على المريض بعكس الجريمة فإنها من خلق المشرع فهو الذي يحدد عناصرها و يزن خطورتها. فضلا عن أن أذاها يحق بالمجتمع كله فيجب أن يوقع العقاب على مرتكبها زجرا لمن تسول له نفسه بالشر و ما دام أنه لا مجرم بلا جريمة لا مفر إذن من الإهتمام أيضا بالجانب المادي. أما من حيث تفاصيل هذه النظرية فهي لم تسلم من النقد إذ أن ما يقول به لمبروزو من وجود إستعداد طبيعي للإجرام لدى المجرم بطبيعته لم يقم عليه الدليل ثم إذا سلمنا جدلا بأن الشخص يولد مجرما فلا محل لتقرير مسؤوليته من الوجهة الجنائية إذ أن ذلك لا يستقيم مع العدالة.

و أما عن العلامات التي تميز هذا المجرم عن غيره فقد ثبت أنها تتوافر لدى كثير من الأشخاص الوديعين ذوي الأخلاق الكريمة.

كذلك تفرق النظرية بين المجرم بطبيعته و المجرم المجنون مع أنه لا محل لهذه التفرقة إذ أن كلاهما مدفوع للإجرام بحكم خلقه فالأول ولد مجرما و الثاني ولد مختل العقل.

أما القول بعدم معاقبة المجرم بالعاطفة. فنسيان الغرض الأساسي من العقوبة و هو ليس فقط إصلاح المجرم بل إرهاب غيره حتى لا يعمد إلى إرتكاب الجرائم فيسود الأمن، غير أنه ما من شك في أنه رغم هذه الإنتقادات فقد كشفت هذه النظرية عن كثير من عيوب المذهب القديم ولم يجد أنصار هذا المذهب غضاضة في أن يهتدوا بتعاليمها من حيث مراعاة الظروف الشخصية لكل مجرم على حدة عند تقرير الجزاء و مقداره أي جعل العقوبة فردية.

المذهب التوفيقي:
إستعرضنا فيما تقدم كلا من المذهبين القديم و الحديث     و هو مذهب الواقع و بين ما ينطوي عليه كلاهما من مزايا و عيوب لهذا الغرض   و قد إتجهت أفكار العلماء و المشرعين حديثا إلى التوفيق بين هذين المذهبين فعقدت عدة مؤتمرات جنائية إنتهى بها المطاف إلى تقرير مذهب جديد يتلخص فيما يأتي.

أولا: تقسيم المجرمون إلى ثلاثة طوائف:
1)- المجرمون غير الخطرين: و هم الذين يرتكبون الجرائم عرضا تحت تأثير ظروف مادية أو معنوية أحاطت بهم كفقر أو غواية أو غضب أو إهانة أو ما إلى ذلك.
2)- المجرمون الخطرون: و هم الذين أشربت بالجريمة نفوسهم فأصبح الإجرام هو الإستعداد الطبيعي لمجرى حياتهم و يرجع إجرامهم إلى إستعداد فطرى و إعتياد عليه تحت تأثير عوامل إجتماعية أحاطت بهم كالفقر و التشرد و إهمال التربية و غير ذلك، و تلك الطائفة هي الخطر الحقيقي على الأمن و يجب أن يعني بأمرها كل العناية.

3) المجرمون المرضى: و هم طائفة المجرمون المصابون بأمراض عصبية أو صرع أو إضطراب عقلي و منهم المدمنون على المسكرات و المخدرات.

ثاينا: تكملة العقوبة بوسائل الضمان: يرى مجددوا هذا المذهب أن العقوبة يجب أن تكمل بوسائل أخرى تسمى بوسائل الضمان، الغرض منها أن لا يعود المجرم إلى الجريمة إما بمعالجته و تعليمه أو بتضييق حريته و مراقبته. و الأصل فيها أن لا يحدد القاضي مدتها بل يترك ذلك إلى السلطة التنفيذية التي تترك مراقبة المجرم بحيث إذا أنست فيه الإصلاح و الإستقامة أفرجت عنه و إلا إستمرت في مراقبته و من هذا القبيل إرسال المجرمين الأحداث إلى الإصلاحيات.

و كذلك معتادي الإجرام إلى إصلاحيات خاصة بهم و كذلك إدخال المدمنين بالمسكرات إلى المصحات الكفيلة بعلاجهم و مراقبة المتشردين و المشبوهين و غير ذلك.
النظرية الإجتماعية: مفادها أن إجرام المجرم ليس نتيجة لإستعداد خلقي في شخصيته و إنما هو نتيجة لحياته الإجتماعية و الوسط الذي يعيش فيه.

النظرية الإشتراكية: ترى أن العامل الأساسي في إزدياد الإجرام هو سوء توزيع الثروة و تحكم الرأسمالية، ذلك النظام القائم على الأنانية و الجشع هو الذي يترك الفقر مخيما على السواد الأعظم من الناس و يوعز صدورهم حقدا و حسدا فتهون الجريمة في أعينهم.

هذه هي المذاهب المختلفة التي تنازعت القانون الجنائي و الأدوار التي مر بها منذ نشأته حتى وصل إلى الحالة التي هو عليها الآن، ولم يكن هناك بد من دراستها ولو بإيجاز تام على نحو ما تقدم لإمكان تفهم قواعد هذا القانون على الوجه الصحيح و لإستكمال الثقافة القانونية من حيث الجريمة و المجرم و العقاب.
نشأة قانون العقوبات و تطوره في الجمهورية الجزائرية

إذا تتبعنا تاريخ تطور قانون العقوبات منذ نشأته في الجزائر نرى أنه مرتبط بمراحلها السياسية و قد مر بأربعة مراحل متتابعة.

المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل الإستعمار الفرنسي: في هذه المرحلة كانت قواعد قانون العقوبات كغيرها من القواعد الأخرى مستقاة من الشريعة الإسلامية عن طريق ( مجلس الفتاوى ) الذي كان يعطي رأيه في المسائل المعروضة عليه    و كان هذا المجلس مكون من فقيهين أحدهما يمثل المذهب الحنفي و الثاني يمثل المذهب المالكي و يعاونهما قاضيان و عدد من العلماء. و لم تكن القواعد القانونية في تلك المرحلة مدونة بل مجرد أعراف سارية و كان النظام القضائي غاية في البساطة حيث كانت الأحكام تصدر عن قاضي واحد يعينه الداي من بين العلماء الذين عرف عنهم التقوى و الزهد و سعة الإطلاع عن أمور الدين و كان إختصاصه شاملا لجميع أنواع المنازعات دون حدود نوعية أو إقليمية و يجوز للمتقاضين الطعن في حكمه أمام الداي و كانت المرافعات كلها شفوية، ووسائل الإثبات ترتكز أساسا على الشهادة من حيث قيمتها كدليل. و كان يجوز للقاضي أن يرجع عن حكمه أو يعدله في أي وقت يشاء كما كان تنفيذ الأحكام يتم عن طريقه أو عن طريق معاونيه.

المرحلة الثانية: مرحلة الإحتلال الفرنسي: و تبدأ هذه المرحلة منذ أن إحتل الفرنسيون الجزائر 1830 م و خيم عليها كابوس الإستعمار حقبة طويلة من الزمن عمد فيها المستعمر إلى تطبيق التشريعات و القوانين الفرنسية في البلاد بالنسبة للدعاوي التي يكون طرفا فيها أو أحدهما من الأروبيين، بينما ترك دعاوى الوطنيين خاضعة للقواعد العرفية القديمة التي كانت سائدة من قبل حتى إذا كان عام 1841 صدر الأمر المؤرخ في 28 فبراير و المعدل بالأمر رقم 21 سبتمبر 1842 و الذي ألحق القضاء الوطني بالجهاز القضائي الفرنسي. كما ألغى حق القضاة الوطنيين في الحق في القضايا الجنائية و صارت هذه القضايا تنظر أمام المحاكم الفرنسية        و تطبق بشأنها أحكام القانون الفرنسي.
غير أنه و إن كان الأمر كما يبدو قد حقق نوعا من المساواة بين المتقاضين إلا أن ذلك لم يتحقق فعلا فقد كانت هناك أفعال تعتبر في تعداد الجرائم إذا كان مرتكبوها من الوطنيين كتلك النصوص التي صدرت ما بين عام 1841، 1847      و هي فترة الحرب الفرنسي و كذلك النصوص الخاصة بتجريم أفعال سرقة المحاصيل الزراعية و المواشي. و تجريم فعل إمتناع المواطن الجزائري من المثول أمام مأمور الضبط.

كذلك كانت هناك عقوبات خاصة تطبق في الجزائر وحدها ولا مثيل لها في قانون العقوبات المطبق في فرنسا مثل عقوبة الغرامة الجماعية التي كانت توقع على كل سكان الدوار أو أفراد القبيلة مع ما في ذلك من هدم صارخ لمبدأ شخصية العقوبة. و كذلك عقوبة الإعتقال و الوضع تحت المراقبة و الإقامة الجبرية لذوي النشاط المناهض للوجود الإستعماري هذا من ناحية الموضوع أما من ناحية الشكل فقد كانت هناك المحاكم التي تشكل خصيصا لنظر الجنح التي يرتكبها الوطنيون مثل المحاكم الجزائية الوطنية التي شكلت بموجب المرسوم الصادر في 29 مارس سنة 1902 و المكمل بالمرسوم الصادر سنة 1904، و كانت تتكون من رئيس فرنسي يعاونه إثنان من المساعدين أحدهما فرنسي و الآخر جزائري يعينه الحاكم الفرنسي. و كان يختاره غالبا ممن لا دراية له بالقانون حتى ينفرد الرئيس و العضو الفرنسي الآخر بالحكم في القضايا. وقد استثنى من إختصاص هذه المحاكم الجنح المتعلقة بالصحافة و الضرائب حيث كانت تخضع للمحاكم المشكلة طبقا لقانون تنظيم القضاء الفرنسي، و أما الجنايات فكانت تختص بنظر فيها محاكم الجنايات التي إنشئت في 12/12/1902 و كان إختصاصها مقصورا على الجنايات التي يرتكبها الوطنيون  و كانت تتشكل من ثلاثة قضاة فرنسيين و أربعة من المساعدين القضائيين من بينهم إثنان من الجزائريين. و إلى جانب ذلك كان لحاكم القرية سلطة إصدار بعض الجزاءات لقمع الجرائم كما كان يدير إدارة القرية المختلطة بمقتضى قانون 18 يونيو 1881 بعض السلطات لقمع الجرائم التي يرتكبها الوطنيون في القرية.       و ظلت هذه السلطات قائمة حتى ألغيت سنة 1928 و منحت لقاضي الصلح.

المرحلة الثالثة: توحيد التشريع الجنائي في الجزائر: تبدأ هذه المرحلة بالأمر الصادر في 23 نوفمبر 1944 و الذي طبق لأول مرة على جميع المواطنين الجزائريين و على كل إقليم الوطن الجزائري، وقد تضمن هذا الأمر عدة إصلاحات جوهرية أهمها:

1) إلغاء قواعد التفرقة و التمييز بين سكان الإقليم الجزائري و كذلك إلغاء الأفعال التي جرمها المشرع الفرنسي و الخاصة بالجزائريين و التي كانت قد صدرت فيما بين عامي 1841 و 1874 و أطلق عليها (الأفعال المعادية للوجود الفرنسي).

2) إلغاء التجريم الخاص بإمتناع المواطن الجزائري عن المثول أمام مأموري الضبط القضائي و مساواته بالمقيم الفرنسي في الخضوع لأحكام التشريعات الفرنسية في هذا الخصوص.

3) إلغاء عقوبة الإعتقال بواسطة الإدارة التي كانت موجهة ضد الوطنيين   و إن كانت هذه العقوبة قد عادت و ظهرت مرة أخرى في حرب التحرير عام 1955 لمقاومة نشاط الثوار ممثلين لجبهة التحرير الوطني.

المرحلة الرابعة: حرب التحرير و إستقلال الوطن الجزائري: و تبدأ هذه المرحلة منذ إندلاع الثورة الجزائرية في الفاتح نوفمبر 1954 فمنذ ذلك الحين بدأت السلطات الإستعمارية الفرنسية في إقامة المحاكم الإستثنائية و توسيع إختصاصات المجالس العسكرية لمحاكمة المواطنين الذين حملوا السلاح من أجل تحرير بلادهم كما عمدت إلى تطبيق القوانين الجائرة لوقف التيار الثوري المتدفق، فألغت حقوق الدفاع و أهدرت المبادئ القانونية المستقرة عالميا، و أصدرت مرسوما في 1956 منح المحاكم العسكرية إختصاصات إستثنائية للنظر في (جرائم التمرد المسلح)       و هي الجنايات و الجنح التي تمس الدفاع الوطني و جرائم (عصابات الأشرار) التي قدم بموجبها المواطنون الذين حملوا السلاح ضد المستعمر للمحاكمة.

و تطور الأمر بعد ذلك حتى أصبحت شريعة الغاب هي المطبقة في الجزائر و ساد حكم السفاحين و العصابات المأجورة و المرتزقة التي أقامت محاكمها        و مشانقها و مراكز التعذيب و أهدرت حريات الأفراد و آدميتهم و حياتهم في أبشع مجزرة بشرية خططها الإستعمار. و أستمر الحال على ذلك حتى تم النصر للمناضلين و أعلن إستقلال الجزائر. وصدر الإصلاح القضائي و القانوني بالأمر المؤرخ في 16 نوفمبر سنة 1965 و الذي دخل حيز التنفيذ بمقتضى الأمرين المؤرخين في 8 يونيو سنة 1966 و أحدهما خاص بقانون العقوبات و الآخر خاص بقانون بالإجراءات الجزائية.

تعريف قانون العقوبات: هو عبارة عن مجموعة القواعد التي تعين الأفعال المعاقب عليها جنائيا و الجزاءات التي توقع على مرتكبيها فهو قانون موضوعي يتعلق بالموضوع بعكس قانون الإجراءات الجزائية فهو قانون شكلي يتعلق بالشكل بمعنى أنه يبين القواعد التي تحدد نظام المحاكم الجنائية و إختصاصها و الإجراءات التي يجب إتباعها في تحقيق الأفعال المعاقب عليها و في محاكمة مرتكبي تلك الأفعال و توقيع العقاب عليهم.

و لقد ثار خلاف حول طبيعة قانون العقوبات، فهل هو فرع من فروع القانون العام أم فرع من فروع القانون الخاص.

فيرى فريق من الفقهاء أنه من فروع القانون الخاص لأن أغلب نصوصه ترمي إلى حماية حقوق الأفراد و منافعهم و أنه تضمن نصوصا قليلة لحماية الدولة و الهيئات و المؤسسات العامة، و هذا الرأي هو الذي جرى عليه العمل في الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية.

و أما الفريق الثاني فيرى أنه من فروع القانون العام لأن نصوصه تهدف إلى حماية مصالح عامة فعقاب السارق مثلا: لا يقصد به حماية صاحب المال المسروق و إنما حماية الملكية للكافة و هكذا .

و يرى فريق ثالث أن أحكام قانون العقوبات ذات طبيعة مختلطة ترمي إلى مصلحة المجموع و حقوق الأفراد على السواء. و لكل من هذه الآراء الثلاثة من يؤيده و من يعارضه من شراح القانون، مما لا يتسع المجال هنا لبسط كل المناقشات و ينقسم قانون العقوبات بدوره إلى قسمين رئيسيين:
* القسم العام.                   * القسم الخاص.
- فالقسم العام هو عبارة عن القواعد و المبادئ التي تنطبق على كافة الجرائم: مثل قواعد المسؤولية الجزائية.

و أما القسم الخاص فهو عبارة عن دراسة كل جريمة على حداها و بيان أركانها و عقوبتها.

و قانون العقوبات بقسميه هذين له غرضين أساسيين: الغرض الأول هو العمل على إستتباب الأمن بواسطة إرهاب المجرمين و الأشرار حتى لا يقدموا على إرتكاب الجرائم.

و الغرض الثاني هو معاقبتهم إذا ما أقدموا على إرتكابها حتى لا يعودوا إلى ذلك مرة أخرى فهو بذلك يهدف إلى إرهاب و زجر المجرم، و لذا فإن له صلة     وثيقة بغيره من فروع القوانين الأخرى فهو يتصل بالقانون الدستوري: في تأييد النظام الدستوري و حماية الحريات العامة و يتصل بالقانون الإداري في أن النظم الإدارية توجه نصيبا كبيرا من نشاطها إلى مكافحة الجريمة، و في أن اللوائح الإدارية تستمد ضمان تنفيذها من العقوبات الجزائية التي تقررها. و يتصل كذلك بالقانون الدولي العام في أن طائفة كبيرة من المبادئ الدولية تتعاون في تحديد سلطات القانون الجنائي على الجرائم و على المجرمين في أراضي الدولة و خارج أراضيها و تتعاون كذلك في العصر الحديث على إنشاء جرائم دولية تحاكم مرتكبيها أينما ضبطوا و على تنظيم التضامن بين الدول المختلفة في محاربة الإجرام و تعقب المجرمين. و يتصل القانون الجنائي أيضا بالقانون الخاص و فروعه من حيث أن جانبا كبيرا من الأعمال التي تعد جرائم ماسة بالمجتمع يضر كذلك بمصالح الأفراد و يترتب عليه جزاء مدني تستوفي الدولة مراعاة للصالح الإجتماعي، و لئن كان كل من الجزاءين مستقل عن الآخر في طبيعته و في مصيره، غير أنه نظرا لنشوئهما عن أمر واحد فإنهما يشتركان في طرق الفصل فيهما و ربما توقف في بعض الأحيان أحدهما على الآخر وجودا و عدما، فقد يرفع أمرهما معا إلى سلطة قضائية واحدة تنظر في الجريمة من ناحيتها الإجتماعية و الفردية و تنطق بالعقوبة          و بالتعويض معا. وقد يحرك الدعوى العمومية المؤدية إلى العقوبة الفرد المجني عليه في صورة مباشرة رغما عن سكوت السلطة العامة عن المطالبة بحق المجتمع كما في جريمتي السب و القذف ينعدم حق المجتمع في العقاب إذا إنعدمت وسائل الإثبات التي أقر بها القانون المدني لإثبات عقد من عقود الأمانة إذا خان فيها المدين أمانته بصرف النظر عن إقتناع القاضي الجزائي بقرائن أخرى كافية للإدانة وقد يمتنع العقاب إذا إمتنع المجني عليه عن الشكوى كما في جريمة الزنا.

و يتصل القانون الجنائي أيضا إتصالا وثيقا بالعلوم الإجتماعية لأن الجريمة ما هي إلا ظاهرة إجتماعية ترجع في أكثر الأحيان إلى عوامل إجتماعية، و ذات علاقة بعلم الإقتصاد حيث أن للظروف الإقتصادية تأثيرا كبيرا في نقص الإجرام أو زيادته و تظهر علاقته بعلم الأحصياء في معونته للوقوف على مبلغ الإجرام        و تحديد أسبابه و تظهر علاقته بعلم النفس في التعرف على درجات النفسية الإجرامية وقدر تأثرها بعوامل الإصلاح أو الإفساد الخارجية، كما تتضح علاقته ببعض العلوم الفنية الأخرى كالطب الشرعي و تغذيته بالوسائل المؤدية إلى إكتشاف الجريمة و إثباتها. و بعلوم الهندسة كتبيان مدى مسؤولية المهندس عن كل ما يترتب من أضرار نتيجة العمل الذي يباشره و يشرف عليه.

قانون العقوبات و مبادئ الأخلاق: للأخلاق مبادئ إجتماعية تحدد سلوك الناس و معاملاتهم في شؤون الحياة مصدرها المثل العليا من الخلق الكريم و النفس المهذبة و الضمير الطاهر، و هي تتشابه مع مبادئ قانون العقوبات فيما يحدثه أتباعها من النظام و الأمن في الحياة الإجتماعية. و فيما ترمي إليه من إقرار العدل بين الأفراد و إسعاد أحوالهم. و لذلك فإن قواعد قانون العقوبات قائمة معظمها على أساس خلقي و الأعمال التي يحضرها قانون العقوبات يحرمها القانون الأخلاقي كالإعتداء على نفس الغير أو ماله، غير أن كثيرا من الفوارق تفصل بين النوعين   و مرجع هذه الفوارق إما إلى صفة الجزاء فيهما أو الى مقياس كل منهما أو نطاقه على النحو التالي.

من حيث الجزاء: تختلف صفة الجزاء في القواعد الخلقية منها في القوانين الجزائية فهو في الأول جزاء أدبي يرجع إلى سلطان الضمير و إلى خوف إحتقار الناس من خالفها و إنصرافهم عنه، بينما هو في الثانية جزاء وضعي يرجع إلى سلطان الدولة يصيب المجرم في ماله أو بدنه أو كرامته أو في حياته وقد يجتمع الجزاءان في كثير من الحالات حيث يتدخل المشرع بالعقاب الوضعي فيما تحرمه الأخلاق كالقتل و السرقة و الإتلاف، لكن في حالات كثيرة أخرى ينفرد الجزاء الأدبي في القواعد الخلقية دون أن يؤدها قانون العقوبات كواجب الصدق و الإحسان و المجاملة و عرفان الجميل، و كذلك ينفرد الجزاء الجنائي في تحريم أعمال لا صلة لها بالإخلاق كجرائم المرور و لوائح البلدية و الطرق العامة.

2) من حيث مقياس الحكم على الأفراد: يختلف مقياس الحكم على الأفراد من الوجهة الجنائية عنه في الحكم عليهم من الوجهة الخلقية بحيث يكون المرء بريئا من الوجهة الأولى و مجرما من الوجهة الثانية. فالمقياس الأول مقياس خارجي مقصور على الأعمال الظاهرة إيجابية كانت أم سلبية إذ القانون الجنائي يكتفي بإتفاقها مع نواهيه و أوامره بصرف النظر عن البواعث و النيات الداخلية المقترنة بها. و ما دام الفرد قائما بما فرضه القانون ممتنعا عما حرمه فلا لوم عليه، كمن يمتنع عن تنفيذ نيته على القتل خشية ضبطه أو لعدم سنوح الفرصة له و لكن المقياس الثاني داخلي يتصل بالباطن أكثر منه إتصالا بالظاهر، و بالحالة النفسية أكثر منه بالنشاط الخارجي، فهو يعتبر ممن تقدم ذكره في المثال السابق مجرما خلقيا. على أن القول بأن قانون العقوبات في حكمه على سلوك الناس و نشاطهم يأخذ بالمقياس الخارجي لا يعني أن هذا القانون يصرف النظر عن أي أمر يتعلق بالحالة النفسية فإنه يتناول هذه الحالة في كثير من الأمور كما يتناولها قانون الأخلاق. فجرائم الإعتداء على النفس التي تقع عمدا أو مع سبق الإضرار كالقتل     و الضرب تعاقب بأشد مما إذا وقعت عمدا و لكن بنية عرضية لم يسبقها أصرار  أو تصميم أو تدبير، و جرائم القتل و الحريق و الجرح إذا حدثت عمدا تعاقب بأشد مما إذا حدثت عن إهمال لا عمد فيه و إتلاف منقولات الغير إذا جاء عمدا أصبح جريمة كذلك إذا جاء بغير عمد.

 و للمجرم السياسي في كثير من الشرائع الأجنبية عقوبات و معاملة خاصة أكثر رحمة مما أعد للمجرم العادي نظرا لإختلاف البواعث و الغايات بينهما، ففي مثل هذه الحالات تختلف المسؤولية الجنائية عن المسؤولية الخلقية وجودا و عد ما   أو بشدة و خفة تبعا لنية الشخص و بواعثه، مع أن الأعمال الخارجية غير مختلفة   و النتائج المادية واحدة.

3) من حيث نطاق كل من قانون العقوبات و قواعد الأخلاق: فقواعد الأخلاق تتناول تربية النفس و تكوين الفضائل كالرحمة و الوفاء و الصدق و البر بالأقارب و هي أوسع دائرة و أبعد مدى في الأمر و النهي من القانون الجنائي بعض الواجبات يتطلبها الضمير و يتخلى عنها المشرع الجنائي، و رغما عن أن القانون الجنائي قد وسع في كل العصور كثيرا من مبادئ الأخلاق و تولى حمايتها بالعقاب. فميدان الأخلاق لا زال و سيبقى أوسع دائرة من القانون، يختار منها المشرع الجزء الضروري لحماية المجتمع من الفوضى و يتدخل في تأييدها بالجزاء ثم يترك ما عدا ذلك لحكم الضمير، لأن الدولة لا تستطيع أن تتولى تنفيذ سائر المبادئ الخلقية على إختلاف أنواعها و درجاتها إما لصعوبة الإثبات في النيات    و الأمور النفسية، و إما لأن الدولة لا ترى في مخالفتها أثرا كبيرا و خطرا في علاقات الناس الخارجية كما في الكذب و ذم الغير، إلا إذا وصل الخطر منها إلى درجة تبرر تدخل الدولة أو تستلزمه. و حينئذ يؤيد القانون الجنائي مبادئ القانون الخلقي و يجعل من إنتهاكها جرائم وضعية كالنصب و التزوير في الأوراق و أداء اليمين الكاذبة و شهادة الزور أمام المحاكم و قذف الغير بطريق من الطرق العلنية.

مدلول الجريمة و أنواعها: ماذا يقصد بالجريمة؟.
لم يعرف قانون العقوبات الجزائري الجريمة، و ذلك جريا على الخطة التي إتبعتها أغلب القوانين الحديثة. و هي خطة سليمة لأن وضع تعريف عام للجريمة في نص قانوني فإنه لا يخلو من ضرر إذا جاء غير دقيق و غير جامع لكل المعاني المطلوبة و مانع من دخول معاني أخرى خارجة عن مطلوب المشرع و أن وجود النصوص التي تحدد مختلف أنواع الجرائم قيد خاص لسد باب الإجتهاد في النصوص الجزائية.

و مع ذلك يمكن تعريف الجريمة بأنها كل عمل أو إمتناع عنه يرتب القانون على إرتكابه عقوبة أو تدبير أمن.

و مدلول هذا التعريف هو أن الجريمة يمكن أن تقع بالفعل أو بالترك أي الإمتناع، فالجريمة التي تقع بفعل الجاني كما لو أطلق الرصاص على المجني عليه فقتله، أما التي تقع بالترك فمثلها المرأة التي تمتنع عن إرضاع طفلها حتى يموت.   أو السجان الذي يريد قتل المسجون فيمتنع عن تقديم الطعام إليه بقصد قتله فيموت. إنما يتعين حتما لكي تقوم الجريمة السلبية في حق مرتكبها أن يكون محملا بواجب يتعارض مع موقفه السلبي فإذا لم يكن الأمر كذلك فإنه لا يخرج عن نطاق الواجبات الأدبية و يكون الإمتناع هنا غير معاقب عليه، كمن يرى شخصا مشرفا على الغرق ولا يتقدم لإنقاذه لأن القانون لا يفرض عليه واجب الشهامة و المروءة.