القرائن والافتراضات القانونية

من أهم تقنيات وصور الصياغة القانونية اللجوء إلى الافتراضات القانونية في صور افتراضات مجازية أو في صورة قرائن أو في صورة حيل، وهو موضوعنا لهذا الدرس.
                      I.            تعريف القرائن والافتراضات القانونية
       تدل القرينة في اللغة على استخلاص أمر مجهول من أمر معلوم، كقرينة سقوط المطر من تشكل البرك، وقرينة مرور القافلة من أثر مسيرها، وعرفها الجرجاني بأنها:" أمر يشير إلى المطلوب"، أما في القانون فهي تدل على استنتاج أمر مجهول من واقعة معينة، فالزواج هو قرينة على ثبوت النسب.
والقرينة هي نوع من الافتراض القانوني، ذلك أن الافتراضات القانونية كثيرة، وهي ليست كلها من قبيل القرائن، فالافتراضات أعم من القرائن، بينما القرينة هي افتراض، فمن الافتراضات التي جاء بها القانون الشخصية المعنوية التي لا وجود لها في الواقع، والافتراض القانوني هذا هو أمر كان لازما لتطور القانون، وقد عرفه الفقيه الألماني إهرنج بأنه: "كذب فني اقتضته الضرورة".
فالافتراض القانوني هو عبارة عن وضع من صنع المشرع مخالفة للحقيقة يضعه في اعتباره عند صياغة القاعدة القانونية، ويهدف من خلاله إلى ترتيب آثار قانونية يتعذر الوصول إليها بغيره، فهو نوع من الصياغة المعنوية، فهو لا يتطلب ألفاظا معينة بقدر ما يتضمن أفكارا، تأخذ شكل تقرير بعض النتائج بناء على مقدمات لا تؤدي إلى تلك النتائج بالضرورة، ولكن المشرع يجعلها كذلك لتحقيق مقصوده وغرضه الخفي، فالافتراض كأنه يقوم على تشويه الحقائق، بجعل النتائج مترتبة عن مقدمات لا لشيء إلا لأن المشرع أراد.
فلنأخذ مثلا لذلك من قانون الإجراءات المدنية والإدارية، بحسبان هذا القانون قائما على كثير من الافتراضات التي ترجع إلى الهدف من هذا القانون وهو حسن سير العدالة، فطبقا للمادة 529 ق.إ.م.إ.ج فإن رفع دعوى الملكية يفترض التنازل عن دعوى الحيازة، لأنه لا يصح المطالبة بالحيازة والملكية في آن واحد، فالثانية أعم، وبما أن المدعي قرر رفع دعوى الملكية فيفترض أنه تنازل عن دعوى الحيازة سواء رفعها أو لم يرفعها، فإذا كان قد رفعها من قبل سقطت، وإذا رفعها بعد رفع دعوى الملكية لم تقبل طبقا للمادة المذكورة.
ومن أمثلتها أيضا في نفس القانون حالات رد القضاة بناء على وجود صلات وعلاقات معينة يفترض معها تأثر قناعة ورأي القاضي ومن ثم حكمه، فهي من قبيل الافتراضات القانونية، وهذا يقودنا إلى فهم طبيعة الافتراض، فالافتراض لا يضعه إلا المشرع، فليس من حق الخصوم ولا القاضي أن يضع افتراضات معينة ماعدا تلك التي نص عليها القانون، إلا إذا كان الأمر يتعلق بالإثبات فإن القرائن القضائية هي أحد وسائل الإثبات، وهي مشروعة، ولكن شتان بينها وبين خلق افتراضات قانونية مضاهية لتلك التي يضعها المشرع، أو حتى مجرد القياس على الحالات التي قننها المشرع، كالقياس على حالات رد القضاة حالات أخرى مشابهة أو مقاربة.
       ومن الأمثلة الشهيرة في هذا الخصوص نظرية العلم اليقيني، أي افتراض العلم اليقيني بالتبليغ القضائي بناء على قرائن معينة، كالحضور والمذكرات الجوابية ...إلخ
والافتراض القانوني بعد ذلك وإن كان يقوم أحيانا على الكذب فهو في أحيان أخرى يقوم على المجاز كما في فكرة الشخصية المعنوية.
والافتراض القانوني يختلف عن فكرة الصورية، لأن هذه الأخيرة من صنع المتعاقدين لإخفاء حقيقة ما، بينما الافتراض القانوني من صنع المشرع أثناء الصياغة لتحقيق غايات معينة.
ويعتبر القانون الإداري كذلك مجالا خصبا للافتراضات القانونية خاصة في فكرة الخطأ المفترض الذي يعد أساسا للمسؤولية الإدارية، وهو أمر موجود في القانون المدني أيضا في صورة الخطأ المفترض لحارس الأشياء.
      I.             الفرق بين القرينة والحيلة
       الافتراضات القانونية نوعان: قرائن وحيل، والقرينة تتأسس على أمر يغلب وقوعه، بينما الحيلة هي افتراض بعيد عن الواقع، وبعيد عن الوقوع، ومخالف للحقيقة، فإذا كانت القرائن قابلة لإثبات العكس، فإن الحيل هي أصلا من السهل تماما إثبات عكسها، ولكن هذا الإثبات لا أهمية له في نظر القانون، لأن الافتراض الذي في الحيلة افتراض مطلق، مثل افتراض العلم بالقانون، فمن السهل إثبات الجهل بالقانون، لكن هذا الإثبات لا حاجة إليه، فالعلم مفترض مطلقا، وهي حيلة قانونية لها دواع كثيرة تتأسس وتنهض عليها، وهكذا شأن الحيل القانونية فهي توجد لضرورات عملية تبررها.
فالحيلة القانونية كما يقول الدكتور صوفي أبو طالب تقوم على أساس تجاهل الواقع الملموس بغية الانحراف بالقاعدة القانونية إلى غرض آخر، أو تجاهل وجودها، فهي مخالفة للحقيقة والقانون معا.
انظر: أبو طالب (صوفي)، تاريخ النظم القانونية والاجتماعية، موجود على شبكة الأنترنت.
ومن أمثلة الحيل القانونية الموت المدني الذي كان معروفا في القوانين القديمة، وهو نوع من أنواع العقاب بحيث يعامل الشخص على أنه ميت بينما هو حي يرزق.
ومن أمثلتها أيضا ميراث الجنين الذي تفترض حياته ووجوده بينما هو غير موجود، وذلك من أجل الاحتفاظ بحقه في الميراث، فلولا افتراض حياته لتم اقتسام التركة بدونه، مع العلم أن الأصل أن شخصية الإنسان تبدأ بولادته وتنتهي بوفاته، أما الجنين فهو لم يولد بعد حتى تكون له شخصية قانونية كاملة.
ومن الحيل القانونية أن بعض القوانين الدولية الخاصة لجأت إلى حيلة قانونية لمنع تطبيق القانون الأجنبي عندما يكون مختصا، وهي افتراض تشابهه مع القانون الوطني، وعلى من يدعي العكس أن يتمسك أولا بتطبيق القانون الأجنبي، وأن يثبت مضمونه المخالف للقانون الوطني.
انظر حول هذا المثال: سيهام (عكوش)، القانون الأجنبي إثباتا وتفسيرا: دراسة مقارنة، رسالة ماجستير، كلية الحقوق، جامعة امحمد بوقرة بومرداس، 2009/2010، ص.9
    II.             تحليل تقنيات صياغة القرائن والافتراضات القانونية
إن القرائن قد تكون مفهومة من النص بغير أي إشارة صريحة من المشرع، وذلك باستنتاجها وفق قواعد المنطق، إذ هي بالأساس عبارة عن حكم يستنتج بالمنطق والعقل، وقد تفهم من إعفاء من قررت لمصلحته من أي إثباتات، وقد نصت المادة 337 من القانون المدني الجزائري على هذا الحكم لصالح القرينة بنصها: " القرينة القانونية تغني من قررت لمصلحته عن أي طريقة أخرى من طرق الإثبات، على أنه يجوز نقض هذه القرينة بالدليل العكسي، ما لم يوجد نص يقضي بغير ذلك"، وهذه هي الطريقة الأولى؛
أما الطريقة الثانية فتكون باستعمال عبارات معينة تفيد الافتراض كعبارة "يفترض" و"يعد" و"يعتبر"، وقد يزيد المشرع الأمر بيانا فينص على أن أمرا يعتبر قرينة، مثله نصه في المادة 499 من القانون المدني الجزائري على أن الوفاء بقسط من الإيجار يعتبر قرينة على الوفاء بالأقساط السابقة حتى يقوم الدليل على عكس ذلك".
والافتراضات القانونية عموما ومنها القرائن تتضمن ما يسمى بمبنى الافتراض، وهو ما لا يتحقق الافتراض إلا به وبتحققه، ويمكن القول أن الافتراض القانوني لا يتحقق إلا بشرطين:
الشرط الأول: وجود نص قانوني يتضمن ويقرر الافتراض.
الشرط الثاني: تحقق مبنى الافتراض الذي على أساسه يطبق الافتراض.
فمثال ذلك اعتبار الحكم حضوريا في حالة تبليغ المتهم تبليغ صحيحا وامتناعه عن الحضور بدون مبرر مقبول، فمبنى الافتراض في هذا المثال هو: حصول تبليغ صحيح، وعدم حضور المتهم وعدم تقديمه لمبرر مقبول، فإذا تحقق مبنى الافتراض بهذه الصورة تحقق الافتراض الذي خلقه المشرع وهو أن الحكم يصدر ويكون حضوريا وليس غيابيا، وهو كما نرى خلاف الحقيقة، وذلك بغرض حرمان المتهم من حق الطعن بالمعارضة، ولحمله على احترام هيئة القضاء.
وعلى كل حال فالقرائن القانونية تنقسم عموما إلى قرائن بسيطة وقرائن قاطعة، فالأولى هي قرائن قابلة لإثبات العكس، أما الثانية فهي قرائن لا تقبل ذلك.
 III.            أمثلة لبعض القرائن القانونية
1- قرينة الدستورية:
إن القوانين تصدر دائما مقترنة بقرينة الدستورية، أي موافقتها للدستور، ثم بعد ذلك إذا تبين أن نصا ما مخالفا للدستور فهنا تتدخل الجهات المخولة بإثارة عدم الدستورية، سواء كانت في صورة الهيئات السياسية أو القضائية، وهذا حماية لعمل السلطة التشريعية من رقابة السلطة القضائية، فإذا كانت هذه الأخيرة حامية لمبدأ سمو الدستور، فإن رقابتها يجب أن تكون في حدود احترام إرادة الشعب الممثلة في نوابه في البرلمان من جهة، من جهة أخرى فإن اقتران القوانين بالدستورية يجعل من إثبات عدم الدستورية على عاتق الطاعن بها لا على القضاء الدستوري مما يخفف من أعبائه، ويجعل الادعاء بعدم الدستورية في أضيق الحدود، ولنا أن نتصور أن كل من هب ودب يستطيع الافتئات على نصوص القانون ووصمها بعدم الدستورية، فهذا ينتهك حرمة القوانين، ويجعلها مطية للادعاءات المغرضة، ويصيب عمل السلطة التشريعية كله بالشلل والمرض، مما يجعل من هذه القرينة ذات أهمية كبيرة لا غنى عنها.
انظر: الحسبان (عيد أحمد)، قرينة الدستورية كأساس لعمل القاضي الدستوري، مجلة الشريعة والقانون، كلية القانون، الإمارات العربية المتحدة، عدد 48، أكتوبر 2011، ص. 167
وتزداد هذه القرينة قوة بالنسبة للأوامر الرئاسية، فيقول الدكتور عبد الله بوقفة:"...وبالمعنى الأكيد لمجمل المواد المتعلقة بالرقابة الدستورية، أن المجلس الدستوري غير مخول دستوريا في أن ينظر في مدى تطابق الأوامر التشريعية مع الدستور سواء كان ذلك النظر تلقائيا أو عن طريق الإبلاغ من قبل الذين خصهم الدستور بتلك الصلاحية، ومما تقدم أظهر المؤسس الدستوري ما لديه من نية قاطعة وصريحة تتحدد في إبعاد الأوامر الرئاسية عن الرقابة الدستورية كأن هناك ما يمنع من الناحية المنطقية و القانونية خضوع الأوامر للرقابة الدستورية والبادي من ذلك يتلخص في مكانة رئيس الجمهورية، بمعنى أن كل ما يصدر عن الرئيس فهو مؤسس على قرينة دستورية".
2-قرينة الإدانة في بعض التشريعات الجزائية:
إن الأصل المكرس دستوريا والذي يجب أن لا تحيد عنه القوانين هو أصل قرينة البراءة، أو ما يسمى بمبدأ البراءة الأصلية، والذي ينبع من قاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة، والأصل في المتهم براءته حتى يأتي ويقوم الدليل على إدانته، ولكن مع ذلك لا بد أن نلفت الانتباه إلى بعض القوانين الجزائية التي خالفت هذا المبدأ صراحة، وأقامت بدله قرينة معاكسة تماما، وهي قرينة الإدانة، حيث جاءت تلك النصوص ملقية عبء الإثبات على عاتق الشخص المشتكى منه بدلا من النيابة العامة، على الرغم من أن إلقاء عبء الإثبات على عاتق النيابة العامة لم تأت به نصوص صريحة بل هو فقط من نتائج قرينة البراءة.
وعلى كل حال فقرائن الإدانة لم تلق شجبا قويا من طرف القضاء الدولي ولا القضاء الدستوري، فالمجلس الدستوري الفرنسي مثلا قرر في قراره بتاريخ:16/06/1999 ما يلي: "يتمخض عن قرينة البراءة من حيث المبدأ أن المشرع لا يمكنه وضع قرينة إدانة في المسائل الجزائية، لكن يمكن إعمال هذه القرائن وخصوصا في قضايا المخالفات متى كانت هذه القرائن لا تتصف بصفة النهائية أو المطلقة، وتضمن احترام حقوق الدفاع، وأن الوقائع أو ظاهر الحال يدلل بشكل عقلاني على ظاهر الإدانة".
والقرار يتحدث عن المخالفات ولكنه ذكرها بالخصوص وليس على الحصر، وبالتالي فقرينة الإدانة مشروعة حتى في حال الجنح، ويبدو أن قرينة الإدانة جائزة في التشريعات الجزائية وليست مخالفة تماما لقرينة البراءة إلا في حال إخلالها بالضوابط الثلاثة المذكورة وهي: 1/ لا تتصف بالنهائية أو المطلقة، 2/ تضمن احترام حقوق الدفاع، 3/ أن الوقائع أو ظاهر الحال يدلل بشكل عقلاني على ظاهر الإدانة.
ولكن المحكمة الدستورية العليا المصرية سبق لها وأن ألغت العديد من النصوص التي تكرس قرينة الإدانة بشكل مبالغ فيه، مثل النص الذي تضمن افتراض العلم بالتهريب في حالة حيازة البضائع المهربة، والنص الذي اعتبر تهريبا النقص في عدد الطرود المفروغة عما ورد في قائمة الشحن، والنص الذي افترض العلم بفساد الأغذية والعقاقير المتاجر بها إذا كان من الباعة الجائلين، والنص الذي يعاقب رئيس تحرير الجريدة إذا كان القسم الذي كتب فيه المقال الموجه بصدده الاتهام إذا لم يكن له رئيس مستقل لافتراض أنه عالم بما ينشر في القسم.
وفي القانون الجزائري نجد نص المادة 343/4 من قانون العقوبات يعاقب الشخص الذي يعيش مع متعاطية الدعارة ويعجز عن تبرير الموارد التي تتفق وطريقة معيشته، فعندما يعجز الجاني عن إثبات أن نمط معيشته لا يعود إلى استفادته ماديا من مساكنة محترفة الدعارة يكون مدانا بجنحة الوساطة في الدعارة [ انظر: بوسقيعة (احسن)، الوجيز في القانون الجنائي الخاص: الجرائم ضد الأشخاص، الجرائم ضد الأموال، ج1، دار هومة، الجزائر، ط 2002، ص. 115]
ولعل من أهم النصوص التي تضمنت قرينة الإدانة هو قانون الجمارك الزاخر بهذه القرائن، يرجع إلى كتاب الأستاذ بوسقيعة احسن حول المنازعات الجمركية، ومن أشهرها على الإطلاق ما نصت عليه المادة 245/1 ق.ج.ج :"تبقى المحاضر الجمركية المحررة من طرف عونين محلفين على الأقل من بين الأعوان المذكورين في المادة 241 من هذا القانون صحيحة ما لم يطعن فيها بعدم الصحة متى كانت محررة من قبل عونين محلفين"، فهذه المحاضر لا تقبل الطعن سوى بدعوى التزوير الفرعية.
انظر للمزيد: زوزو (هدى)، الإثبات بالقرائن القانونية في المواد الجزائية، مجلة المنتدى القانوني، كلية الحقوق، بسكرة، عدد 7، ص.11
كذلك: رحماني (حسيبة)، البحث عن الجرائم الجمركية وإثباتها في ظل القانون الجزائري، كلية الحقوق، جامعة مولود معمري تيزي وزو، د ت م، ص. 72 وص. 96 وما يليها.
انظر حول هذا الموضوع: الفواعرة (محمد نواف)، قرينة الإدانة في التشريعات الجزائية: دراسة مقارنة، مجلة الشريعة والقانون، كلية القانون، الإمارات العربية المتحدة، عدد 49، يناير 2012، ص. 339
3-قرينة بطلان التصرفات في القانون المدني:
فطبقا للمادة 204 من القانون المدني الجزائري يكون الالتزام باطلا إذا علق على شرط مخالف للنظام العام أو غير ممكن، فلو تضمن عقد العمل مثلا شرطا بأن يبقى العامل على عزوبيته لكان الشرط باطلا والعقد أيضا باطلا، ولكن بناء على أن إلغاء العقد سيكون في غير صالح العامل فإن العقد يبقى والشرط يبطل، وهذا مراعاة لمصلحة العامل الذي كفلته القوانين الاجتماعية الحديثة.
4-قرينة التقادم المكسب والمسقط في القانون المدني:
إن التقادمات تمليها ضرورات اجتماعية تتأسس على الحفاظ على المراكز التي استمرت ردحا من الزمن، فهي قرائن قانونية تتأكد بمضي المدة لتدلل على عدم رغبة صاحب الحق في الاحتجاج به أو التمسك به، وهذا ينطبق على كل أنواع التقادمات.
5-قرينة حجية الأحكام (حجية الشيء المقضي):
لما كانت درجات التقاضي محددة في القانون بدرجتين، مع درجة أخرى لمراقبة التطبيق السليم للقانون، فإن عدم السماح باستمرار حق الطعن إلى ما لانهاية، أو لدرجات كثيرة يعود إلى فكرة ضرورة استقرار الأحكام، وعدم معقولية استمرار النظر في القضايا مدة طويلة، ومرات عديدة، ولذلك وجدت قرينة قانونية على أن الأحكام بعد استنفاذ طرق الطعن تصبح حائزة لقوة الشيء المقضي، وهذا يحقق أمرين ومصلحتين: أن الطعن في الحكم لا يعود مقبولا، وأن ما تضمنه الحكم يصبح حجة على المحاكم فتأخذ به كدليل عندما يعرض عليها، فتمتنع عن الفصل فيما فصل فيه، أو تأخذ ما قرره وتبني عليه، وقد يعبر عن هذا الأمر بقوة الأمر المقضي أي أن الحكم عندما يصدر يصبح صالحا أن يكون دليلا للإثبات رغم عدم نهائيته، وهي قرينة قاطعة، فلا يجوز حتى لمن صدر الحكم في صالحه أن يثبت عكس ما صدر به الحكم، أما حجية الأمر المقضي فهي تكون للأحكام النهائية القطعية التي لا تكون قابلة لأي طعن.
6-سن الرشد والتمييز والقصر:
إن مختلف أنواع وطوائف السن التي نص عليها القانون، سواء منها التمييز والرشد المدنيان، أو الرشد التجاري، أو الرشد السياسي، أو الرشد الجزائي، أو القصر بالنسبة للجرائم التي تقع على القصر، أو الحداثة بالنسبة للجانحين الذين يمثلون أمام القضاء الجنائي، هي كلها من قبيل القرائن، ذلك أن المشرع ليس في مقدوره أن يضع قاعدة عامة ومجردة وفي نفس الوقت يراعي كل شخص على حدة، من حيث رشده وتمييزه وقصره وحداثته، بل السبيل إلى ذلك هو وضع قاعدة على الغالب الأعم تكون قرينة على الحكم القانوني الذي يريد أن يسبغه، فهذا افتراض قانوني في شكل قرينة قانونية.
7-قرينة الحضورية في الأحكام الجنائية:
طبقا للمادة 345 ق.إ.ج.ج فإنه :"يتعين على المتهم المبلغ بالتكليف بالحضور شخصيا أن ما لم يقدم للمحكمة عذرا مقبولا وإلا اعتبرت محاكمة المتهم بالتكليف بالحضور شخصيا بغير إبداء عذر مقبول محاكمة حضورية".
وهذه قرينة قانونية قاطعة غير قابلة لإثبات العكس.
الخلاصة: القرائن القانونية ضرورة لتطور القانون، وهي نوع من الصياغة المعنوية للقاعدة التشريعية، والمشرع يلجأ كثيرا إلى الافتراضات لأنها الطريقة الوحيدة لصياغة ما يريد من أحكام.