إفـشـاء الأسـرار

إفـشـاء الأسـرار

تمهيد: كان رجال الدين المسيحي أول من عرفوا تحريم إفشاء الأسرار       و إذاعتها منذ القدم خاصة أنهم يؤتمنون على الأسرار فيما يعرف بسر ( الاعتراف) ثم شمل بعد ذلك الأطباء و الصيادلة و المحامين.

       فالاحتفاظ بالسر و عدم إعلانه ممـا يقتضيه الشرف المهني و الواجب الخلقي علاوة على أن مصلحة المجتمع تتطلب أن يكون المريض واثقـا من الطبيب الذي يعالجه أمينا عليه فيؤمنه على سره، و أن المتهم يطمئن إلى المحامي فيكشف له عن كل أسراره. و لما تطورت الحياة و تشعبت مصالحها و كثرت واجباتها وجد كتمان أسرار الوظائف و المهن في شتى المصالح الحكومية الهامة كالقضاء و التحقيقـات و الضرائب و التوثيقات و غيرهـا.

         و كما سبق لنا القول فإن إفشاء السر يعد من جرائم الاعتبار و الشرف وهي من الجرائم القولية أو الكتابية وقـد تناول المشرع الجزائري هذه الجريمة في المواد 301-302-303 من قانون العقوبات الجزائـري.

المادة 301 عقوبات: تنص هذه المادة على (الأطباء و الجراحين و الصيادلة و القابلات و جميع الأشخاص المؤتمنين بحكم الواقع أو المهنة أو الوظيفة الدائمة أو المؤقتة على أسرار أدلى بها إليهم الذين يفشونها في غير الحالات التي يوجب عليهم فيها القانون إفشاؤها أو يصرح لهم بذلك، يعاقبون بالحبس من شهر إلى ستة أشهر و بغرامة من 500 إلى 5000 دينار)، من هذا النص نستنتج أن أركان جريمة إفشاء الأسرار هي ثلاثة:

1)- إفشاء السر.
2)- معرفة من أفضى به إليه بمقتضى صناعتـه أو وظيفته.
3)- القصد الجنائي.
إفشاء السر: لم يرد في القانون تعريفا لسر المهنة إلا أن الفقهاء عرفوا سر المهنة: ما يضر إفشاؤه سمعة مودعه أو كرامته أو هو كل ما يعرفه الأمين أثناء ممارسته مهنته، وكان في إفشائه ضرر لشخص أو لعائلة بحكم الظروف التي تحيط به. فالطبيب الذي يدرك من الكشف على مريض مصاب بمرض سرطان الدم مطالب بكتمان هذا السر ولو أن المريض نفسه لم يكن عالما به، طبقا لشرف المهنة وقدسيتها كمهنة إنسانية، و المحامي الذي يعلم من حديث موكله أنه قد تورط في ارتكاب الجريمة هذا المحامي يجب عليه أن يحفظ سر موكله ولو لم يفض الموكل إليه بهذا صراحة، فلولا ثقة الموكل بالمحامي لما أباح له بأي سر من أسراره. 

       أما الإفشاء فهو البوح و الإفضاء بالسر و اطلاع الغير عليه سواء بالقول    أو الكتابة أو الإشارة وقد يتحقق ذلك بإذاعته علنا في جريدة ولو كان النشر لغرض علمي بالتحدث به في محاضرة أو بين الناس صراحة أو بجزء من السر و لو تم ذلك إلى شخص واحد فقط مهما كانت صلة هذا الشخص به، فالطبيب الذي يبوح بسر أحد مرضاه لزوجته يقع تحت طائلة العقاب ولو أنه طلب من زوجته كتمان السر.

الإفشاء، من الملتزمين بالكتمان قانونا؟ إعلان و إفشاء السر عمل غير مرغوب فيه و يتنافى مع المبـادئ الأخلاقيـة، لذلك لم يعاقب عليه القانون إلا إذا حصل من بعض الطوائف التي عينتها المادة على سبيل المثال وهم الأمناء بحكم الضرورة ( الأطباء و الجراحون و الصيادلة و القابلات أو غيرهم من المؤمنين بحكم الواقع أو المهنة أو الوظيفـة )، و هذا يتطلب منا تعيين هذه الوظائف بشيء من الوضوح بما أن المادة 302 من قانون العقوبات الجزائري أضافت إلى المادة 301 النص على ( كل من يعمل بأية صفة كانت في مؤسسة وأدلى أو شرع في الإدلاء إلى أجانب أو إلى جزائريين يقيمون في بلاد أجنبية بأسرار المؤسسة التي يعمل بها دون أن يكون مخولا له ذلك يعاقب بالحبس من سنتين إلى خمس سنوات    و بغرامة 500 إلى 10.000 دينار.

       و إذا أدلى بهذه الأسرار إلى جزائريين يقيمون في الجزائر فتكون العقوبة الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين وبغرامة من 500 إلى 1.500 دينار.

ويجب الحكم بالحد الأقصى المنصوص عليه في الفقرتين السابقتين إذا تعلقت الأسرار بصناعة أسلحة أو ذخائر حربية مملوكة للدولة).

كما يعاقب القانون أيضا رجال البريد و موظفيه إذا ما اطلعوا على الأسرار من خلال وظيفتهم المتعلقة بإرسال الرسائل و فضها و غير ذلك.

       فقد نصت على ذلك المادة 303 من قانون العقوبات الجزائري ( كل من يفض أو يتلف رسائل أو مراسلات موجهة إلى الغير وذلك بسوء نية وفي غير الحالات المنصوص عليها في المادة 137 يعاقب بالحبس من شهر واحد إلى سنة وبغرامة من 500 إلى 1000 دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين ).

       فالمواد من 301 إلى 303 قد نصت على الطوائف المؤتمنين على السر بحكم الصنعة و الوظيفة و المهنة و الواقع.

       إلا أن النص لا يسري على الأفراد العاديين كالسكرتيـر الخاص و السائـق      و السمسار و الخدم و المستخدمين و الكتبة في محلات خصوصية.

القصد الجنائي: إفشاء و إعلان الأسرار من الجرائم العمدية فلا تتم إلا إذا حصل الإفشاء عن علم و إرادة و إدراك صحيح للإفشاء و مضمونه، فالإفشاء في حد ذاته كاف و فعل مشين (لا أخلاقي) فلا يستلزم به قصدا جنائيا خاصا لأن نية الإضرار هذه لا لزوم لها.

         فلا تقوم الجريمة إذا حصل الإفشاء بإهمال و عدم احتياط الفاعل، و بناء عليه لا عقاب على الطبيب الذي يترك سهوا في مكان عام معلومات سرية عن أحد مرضاه في أوراق مكتوبة و اطلع عليها الغير عرضا.

       و طبقا للقواعد العامة في القانون الجنائي لا اعتبار للبواعث و الدوافع على إفشاء الأسرار فلا يؤثر ذلك على أركان الجريمة قط.

       و العقوبة كما نصت عليها المادة 301 الحبس من شهر إلى ستة أشهر       و الغرامة من 500 إلى 5000 دينار فالواقعة جنحة دائما.

       أما عقوبة إذاعة أسرار المؤسسة للأجانب فهي الحبس من سنتين إلى خمس سنوات و الغرامة من 500 دينار إلى 10000 دينار، و إذا وصل الإفشاء إلى جزائريين يقيمون في الجزائر فتكون العقوبة الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين      و الغرامة من 500 دينار إلى 1500 دينار.

       و عقوبة ساعي و موظف البريد هي ما حددته المادة 303 عقوبات الحبس من شهر واحد إلى سنة و بغرامة من 500 دينار إلى 1000 دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين.

       إباحة إفشاء الأسرار بحكم القانون:نص القانون على إفشاء الأسرار في حالات معينة و اعتبره واجبا بل حقا على الشخص و لا جريمة في ذلك على الإطلاق، خاصة إذا تعلق السر بأعمـال الخبرة أمام المحاكم و الجهات القضائية    و يكون جوازيا أو وجوبيا إذا أريد به منع وقوع جناية أو جنحة، فالمحامي الذي يعلم من خلال حديث موكله أنه يخطط لارتكاب جريمة عليه أن يبلغ السلطات عنه قبل وقوعها، و لكن لو كانت الجريمـة قد وقعت فعلا فلا يحق للمحامي إفشاء هذا السر و كذلك من واجب ضباط الشرطة القضائية أن يقبلوا جميع البلاغات           و الشكاوي التي تصلهم من الجمهور بشـأن الجرائم.

       و يلزم جميع الأطباء بالتبليغ عن حالات الولادة و الوفيات و الأمراض المعدية و القابلات بالتبليغ عن المواليد، و لا عقاب على ذلك إطلاقا و ذلك تحقيقا للصالح العام.

       و من الحالات التي يلزم بها إفشاء الأسرار الخبير الذي ينتدب من المحاكم بعمل من أعمال الخبرة فإذا أفشى الأسرار التي توصل إليها و بلغ بها المحكمة لا يرتكب أي جريمة لأن عمله يعتبر جزء من عمل المحكمة بوصفه من أعوان القضاء، فإذا وضع في تقريره ما وصل إلى علمه من أسرار بحكم مهنته فلا يرتكب أي خروج على النص القانوني بل العكس هو ملزم بهذا الإفضاء بحكم اليمين التي يؤديها بأن يقوم بعمله بشرف و صدق و أمانة.

 رضاء صاحب السر بإفشائه: إذا رضي صاحب السر بنشره و إذاعته          و إفشائه و صرح لمن ائتمن على هذا السر بالإفشاء فلا جريمة على من أفشى السر، لتنازل صاحبه عن سره و عن كتمانه، فصاحب هذا السر ذو المصلحة الأولى في الكتمان، و ما دام في مقدوره أن يذيعه فله أن يرفع عنه صفة الحظر.

و بناء على ذلك قضي بعدم وقوع الجريمة إذا رضي صاحب السر بإفشائه فإذا طلب المريض من طبيبه بواسطة أحد أصدقائه شهادة بمرضه بالسرطان جاز للطبيب إعطاؤه هذه الشهادة و لا يعتبر عمل الطبيب هذا إفشاء للسر.

        و لكن يشترط في هذا الرضاء أن يكون صحيحا صادرا عن وعي و إدراك      و إرادة حرة سليمة من أي عيب يبطل الرضاء، و سواء تم بالكتابة أو القول أو الإشارة فهو صحيحا، و التصريح بإذاعة السر حق شخصي لصاحب السر وحده فقط بمعنى أنه لا يحق لغيره و لا ينتقل إلى ورثته بوفاته، فلا يحق لأي طبيب بإذاعة أسرار مريضه الذي توفي و لو طلب منه الورثة ذلك.

و إذا كان صاحب السر مريضا مرضا خطيرا أو مجنونا أو مصابا بعاهة في العقل فلا عبرة برضائه، و إنما الذي يملك التصريح نيابة عنه هو ولي النفس، أما الوصي و القيم فإشرافهما لا يمتد إلى الرضاء.